قد يتنافى عنوان هذا المقال مع أبسط بديهيات الأخلاق الطبية، التي لا يمكنها أن ترى أي خيرٍ في جائحة أصابت أكثر من مليون بشري، حاصدةً أرواح أكثر من تسعين ألفاً منهم. لكننا سنحاول رغم هذا النزيف اليومي المتزايد، أن نبحث بين أعداد الجثث ورائحة الموت المنبعثة، عن عريٍ سقطت عنه ورقة التوت بسبب هذا الوباء.
نعمة كورونا
قد يتنافى عنوان هذا المقال مع أبسط بديهيات الأخلاق الطبية، التي لا يمكنها أن ترى أي خيرٍ في جائحة أصابت أكثر من مليون بشري، حاصدةً أرواح أكثر من تسعين ألفاً منهم. لكننا سنحاول رغم هذا النزيف اليومي المتزايد، أن نبحث بين أعداد الجثث ورائحة الموت المنبعثة، عن عريٍ سقطت عنه ورقة التوت بسبب هذا الوباء. فقد كشفت المأساة العالمية هشاشة الأنظمة الصحية العالمية، بأعظمها وأضعفها وعلى اختلاف أنواعها: المدعومة من الدولة، المسيطَر عليها من شركات التأمين والأدوية، وتلك المتروكة لرحمة السماء كما هو حال البعض. التخبّط سمة الجميع الآن، ولا أحد يعلن بصراحة أن الخوف الأساس، منبعه الاقتصاد وليس أعداد الوفيات.
البداية كانت من الصين، حيث سرى فيها الوباء مع تكتّم رسميّ، ليخرج الأمر عن السيطرة في عالمنا الذي يمكن لأحدنا إخفاء كوب ماء فيه عن أعين الهواتف أو الأقمار الاصطناعية. ردّة الفعل كانت حاسمة: استنفار لكل موارد الدولة؛ الصحية، والمالية، والعسكرية. فقد تتالت الصور ومقاطع الفيديو الواردة من تلك البلاد البعيدة، والتي تظهر بقعاً تعمل فيها أنفسٌ أشبه بالرجال الآليين. فمرةً يصل خبرٌ حول بناء مستشفى يتسع للآلاف بُنيَ خلال أسبوع، وتارةً عن قرار بعزل مدينة ووهان بنحو تام، مع قرار صارم بتأمين الحاجات اليومية لسكان المدينة الذين يفوق عددهم عشرة ملايين. وقد يختصر ذلك النظرة الاشتراكية للنظام الصحي: الإنسان أولاً. لم نسمع تصريحاً رسمياً عن أولوية للشباب، أو عن نقصٍ أو عن استسلام وترك الأمر لله. وقد صدم التقدّم الصيني العالم، حتى أعلنت بكين مؤخراً، وبشكل رسمي، عن احتواء المرض بنحو نهائي، وها هي توزّع المواد الطبية على من يحتاجها في "دول الشمال".
السيناريو الصيني حمل إنذاراً للعالم، وقد توقع الخبراء جاهزية الدول المتقدمة للأزمة، ولا سيما بعد الاتعاظ من بعض ما حصل في الشرق الأقصى. لكنّ الاقتصادات العملاقة كانت خائفة: فتركت اوروبا الغربية الأمر لمناعة القطيع، والتي تعني إصابة أكبر عدد ممكن من الناس لتوفير مناعة جماعية، على أن يدفع الكلفة كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة. وما حصل أن عدد الإصابات فاق التوقعات، فاضطرت لاحقاً هذه الدول إلى تطبيق إجراءات الحجر على النسق الصيني، ولكن بعد الخراب. وها هي الوفيات في أوروبا تتعدى الستين ألفاً (ثلثي الرقم العالمي)، مع خسائر اقتصادية مرعبة. ولسخرية الأقدار هذا ما كانت تخشاه الأمم الأوروبية. مدت الصين يدها وقد تلقفها الجميع بترحاب. يد "العدوّ" تنقذ الغرب اليوم، بعد أن تخلى الراعي الأميركي عن نظام "مشروع مارشال" الذي أرضعه منذ الخمسينيات. وقد فجّر الرئيس الصربي قنبلة في وجه حلفاء الأمس، ولعلّ هناك من أطراف الحرب الباردة من تلقّف الأمر بذكاء. هل يتصدّع الاتحاد العظيم؟ هذا مبحث طويل لا مجال لخوضه الآن.
تبقى وقاحة الولايات المتحدّة منقطعة النظير، وإن كان ما تمارسه من "بلطجة" ليس غريباً عن سياستها المتبعة منذ قرون. لكن حتى في عز الضربة التي تلقتها، ما زال رئيسها يتحدّث عن "الدفع" ويسرق المعدات الطبية والكمامات المتجهة الى أي قطر كرجل العصابة المارق. يقول للكون إن الأميركي أولى مَن على البسيطة، وهو بدوره لم يأبه لصحته منذ الأيام الأولى خوفاً على ماله. وها هو يتصدر اللائحة العالمية من حيث عدد الإصابات وفي وقت قياسي. وأيضاً، ينقذه بالمواد الأولية والمعدات "الوحش" نفسه الذي وصفه وزير خارجيته بأنه "التهديد المركزي في أيامنا هذه" في كانون الثاني الفائت.
باختصار شديد، عرّى الوباء الرأسمالية، ولسوء حظها، لا يمكن وصفها إلا بالأدبيات "الخشبية" التي ابتدعها العلّامة ماركس ومن جاء بعده لاحقاً. وها هي طفلتها "الامبريالية" يلتهم بعضها بعضاً محوّلة العالم الى غابة موبوءة يتصارع المرضى بأرذل الوسائل للحصول على ما ينقذهم، وكأننا في فيلم مشوّق سيعيش البطل وحده في نهايته. بالنسبة إلى كثيرين، أعاد هذا الوباء تعريف الأخلاق الطبية وارتباطها بالسياسة، وفضح زيف من أتحفونا لعقود بنظريات التفوّق الغربي الذي يُعلي شأن الإنسان، بعد أن تركوا أمة كإيران تحتضر بسبب حصارهم.شكرًا لكِ عزيزتنا كورونا، وارأفي بكبارنا بعد كل هذا!.
"Related Posts
طبيب لبناني