إن البدء بأيّ نقاشٍ حول الاشتراكية أو التحرّر الاقتصادي في لبنان يفترض إعادة النظر في تموضع لبنان الدوليّ، وطرح احتمالات غير معهودة في لغة خطابه السيّاسيّ. يصبح الكلام حول تعزيز الروابط مع الحلف المناهض للولايات المتّحدة من الضروريّات ويخرج من دائرة التنظير السياسيّ والخيال متى ما أصبح وجود مواطني البلد الصّغير المحاصر على المحكّ.
لبنان على حافّة التحوّل: نقاش حول نظامٍ بديل
"نمت الرأسمالية إلى نظام عالميّ من الاضطهاد الاستعماري والخنق الماليّ لمعظم سكّان العالم عبر حفنة من الدول "المتقدمة". والغنيمة هنا مشتركة بين دولتين أو ثلاثة من الناهبين المسلّحين حتى الأسنان، الولايات المتّحدة، بريطانيا العظمى واليابان، الذين يجرّون العالم من خلفهم إلى حربهم لتقاسم هذه الغنيمة".
(فلاديمير إيليتش لينين، الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية، 1916)
*******
يختزن هذا البلد المتوسّطي الجميل العديد من التعقيدات قد تدفع بمعظم الباحثين الأجانب عنه إلى اليأس بسرعة، أو إلى التسطيح المخلّ أحياناً أخرى. حتى السؤال الأول الذي عادة ما أتجنبه، أو أتهرّب من الإجابة عليه مع غير المتعمّقين في مفاصل لبنان السياسيّة هو دوماً عن نوع نظام الحكم فيه، وأسئلة أخرى تختصّ بالمجتمع وبتقسيمه. إن الخوض في هكذا نقاش في بضعة أسطر، لا بدّ وأن يظلم العديد من العوامل الصغرى التي تساهم في تكوين المشهد القائم حالياً. لذلك سأحاول الموازنة هنا آملاً عدم الوقوع في الاختصار أو في التعقيد.
إنّ البقعة الصغيرة التي هي لبنان، كان من المستحيل أن توجد كدولة ذات سيادة في غير حقبة النظام العالميّ الجديد في الفترة التي تلت الحرب العالميّة الثانية، مثله مثل الكويت وقطر والأردن، كأحد أوجه التقسيم الاستعماري الغربي حينها. لطالما نظرت القوى الغربية لهذا البلد كنقطة انطلاق للتوسّع نحو المحيط العربي، في دورٍ يشابه في بعض جوانبه دور الكيان الصهيوني: دولة أقلويّة (مارونية بشكلها الأوليّ) مزدهرة على الشاطئ الشرقي للمتوسّط، تستفيد من علاقتها المميّزة السياسية والاقتصادية مع الغرب.
مكّن ذلك لبنان من الحفاظ على مستوى معيشة جيّد نسبيّاً في العاصمة ومحيطها ضمن نظام اقتصادي حرٍّ استفاد من ريوع بيع أوائل براميل النفط في المنطقة قبل ولادة أسطورة دبي وأبو ظبي كمراكز مصرفيّة ماليّة. كما واستفاد هذا النظام ومن هرب رؤوس الأموال عبر الحدود من سوريا مثلاً عند كلّ عمليّة تأميم كان يقوم بها حزب البعث في الستينات. ساهمت هذه الموجودات المصرفيّة في الحفاظ على سعر عملة محليّةٍ مرتفع سمح بتنويع وتضخّم الاستيراد كما بالقيام بنشاطات ماليّة وسياحيّة كان لها أن تستحضر المزيد من الريوع نحو البقعة "الحرّة" على شرقيّ المتوسّط، أو سويسرا الشرق كما فضّل الناس تسميتها. في هذه الحقبة تحديداً، كانت باقي البلاد ترزح تحت وطأة الإقطاع، الفقر والأمية.
قيامة المصارف الثانيّة
كان تأثير الحرب الأهلية مدمّراً ليس على المصارف فقط؛ القطاع الملك في لبنان، ورأس المال الماليّ الموازي لباقي القطاع الخدماتي، بل على ما تبقى من الاقتصاد المنتج الحقيقي في لبنان. كان اعتلاء رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وطاقمه السياسي (غير) الاقتصادي لخشبة المسرح اللّبنانيّ، آخر مسمار في نعش هذه القطاعات المنتجة.
حينها تمّ تثبيت سعر الصرف؛ الخطوّة التي مثّلت الوجه الاقتصادي الرئيس للحقبة الجديدة. ماذا عنى ذلك على أرض الواقع؟ مثّل ذلك اختيار اثنتين من أرجل الثالوث المستحيل كما يحلو للاقتصاديين تسميته، أي التخلّي كليّاً عن فكرة السيادة على الاقتصاد المحليّ بهدف المحافظة على سعر صرفٍ عالٍ في ظل نظام تبادل حرّ.
كان ذلك للحريري والمشروع الذي يمثّله من خلال الدخول في حلقة الاستدانة المستمرة بفوائد غير منطقيّة ولا مجدية على المدى الطويل. وبالتوازي، استعمال مزدوج للعملة أي الليرة-الدولار. بعبارة أوضح: إن الطلب المستمرّ على الليرة سيمهّد المجرى أمام سيل مستمرّ من الأموال نحو البلاد، إمّا عبر القروض الأجنبية أو المحليّة: عبر شراء سندات المصرف المركزي ذات الفائدة المرتفعة، بشكل انتقائي بالتأكيد.
تزيد هذه العمليّة من ثقل الديون بشكل بديهي، إلّا أنها ترفع القدرة الشرائية، خاصةً للسلع المستوردة، بعد تحسين ظروف التبادل لهذه العمليّة. لمثل هذه العمليّات تأثير آخر يتمثّل بوأد مشاريع المستثمر المحليّ أو الأجنبيّ في الاستثمار في القطاعات المنتجة، هذا إذا استثنينا مشكلة اقتصاد الخوّة الطائفي، وفساده، ورداءة البنية التحتية في لبنان كعوامل طاردة للاستثمار.
كردّة فعل على زيادة الديون، حاولت الدولة التي تبنّت هذه السياسة عبر مصرفها المركزيّ، تمويل هذه الديون بنيّة المحافظة على "قدسيّة" هذا السعر المرتفع وتعزيز ثقة السوق الدولي به، الأمر الذي اقتضى المزيد من الديون إيغالاً في المتاهة، وما مؤتمرات باريس بجولاته إلا تمظهر لهذه السياسة. بالتوازي مع ذلك، تمّ تمويل الديون أيضاً عبر النموّ غير الصحيّ في ثنائية الموجودات-الواردات الضريبية على الاستهلاك والمتأتيتين بشكل أساسي من تحويلات المغتربين.
مشكلة الضرائب غير المباشرة على الاستهلاك كالضريبة على القيمة المضافة (TVA) هي في أنها ترزح بشكل غير متساوِ على كاهل المواطنين؛ هنا يكمن شيطان النظام اللبناني: إنّ الضرائب على الاستثمار العقاري والمضاربة به كما الفوائد المصرفيّة غائبةٌ تقريباً. ومن الصعب أن تقوم الدولة هنا بفرض مثل هذه الضرائب التي قد تكون حجر أساسٍ في أي محاولة لرفع وارداتها فيما لو أرادت تأسيس نظام ضمان صحيٍ شاملٍ أو تمويل إصلاحات جذريّة في البنية التحتية مثلاً (ذلك بغض النظر عن الهدر المرعب في النفقات والتوظيف الذي يولّده نظام الخوّة الطائفيّ). لماذا ذلك؟ لأن أي زيادة في الضرائب على هكذا استثمارات لن يلائم بنيّة النظام، فالمصارف في محاولة منها لحماية ربحها من هكذا اقتطاع ضريبي، ستلجأ ربّما لتعويض الخسارة إلى تخفيض فوائدها للمودعين، الأمر الذي سيؤدي بالنتيجة لهروب قسمِ في رؤوس الأموال الموجودة (الأجنبي بشكل عام). سيزعزع ذلك فكرة أسس عقيدة تثبيت الليرة دافعاً بالنظام نحو الانهيار غير المنظّم.
فصل السياسة عن الاقتصاد؟
اعتاد العديد من اللبنانيين على زيارة سوريا قبل الأحداث الأليمة التي عصفت بها، بغرض استيراد السلع الأرخص مما هي في بلدهم. فيما كان يهاجر موسمياً نحو لبنان، عدد وازن من العمّال السوريّين الذين ارتضوا العمل في أكثر القطاعات الانتاجية إجهاداً والأقل مكسباً. كان يتبادر إلينا دوماً بأنّ سوريا دولة مكتفيّة ذاتياً في الكثير من المجالات، كما وينعم مواطنوها بتعليمٍ وخدماتٍ صحيّةٍ شبه مجانيّة، فضلاً عن تيار كهربائي ينير المنازل بشكل متسمرّ، الأمور التي كبرنا على غيابها في لبنان. حتّى أن بعض اللبنانيين يعامل السوريين ببعض من التكبّر، وكأن مستواهم المعيشي الأعلى كان ثمرة عبقرية اللبناني، وليس نتيجةٍ لتراكم جبالٍ من الدّين بغية تمويل فاتورة استيرادهم رغيف الخبز والتلفاز والسيّارة السياحيّة.
سوريا، مثلها مثل الجمهوريّة الإسلامية في إيران وجمهورية كوريا الديموقراطيّة الشعبيّة، اختارت المواجهة والحصار في هذا النظام الدولي المكوّن من مهيمنين ومهيمنٍ عليهم. قامت سوريا كما مصر والعديد من دول العالم الثالث في حقبة ما بعد الاستعمار، باتباع سياسةٍ تقوم على استبدال الواردات الخارجية. فاعليّة هذه السياسية ارتكزت على عوامل عديدة كان أهمها نجاعة التخطيط المركزي وحجم الدولة نفسها بشرياً واقتصادياً. لذلك فإننا نصادف دولاً كالجمهورية الإسلامية تتمتع بهامش مناورة عالٍ في صراعها مع الغرب. لا يتمحور النّقاش حول فشل أيّ نظام بديل عن الرأسمالية، أي الاشتراكيّة في حالتنا هذه، بل يتمحور حول دول صغيرة نسبياً تصارع للبقاء والتحديث في مواجهة الإمبراطورية الغربية. هذه الدول الغنيّة تنطلق من أفضلية اقتصادية، إدارية وعسكريّة ساحقة ولّدتها قرون من مراكمة التفوّق، تفوّق ناتج عن التنافس الطاحن الذي شهدته القارّة الأوروبيّة في الحقبة الحديثة، وانطلقت من خلاله لاستعمار الكوكب تباعاً.
إنّ سياسات التخطيط المركزي في دول العالم الثالث في حال نجاحها، ستسمح للدولة بالتمتّع بقابليّة مرتفعة على مقاومة ظروف الحصار عبر أبسط فكرة سياسيّة في هذا العالم: كيف تجنّب شعبك أن يموت من الجوع. هذه السياسات الاستقلالية ستحدّ مِن دون شكّ مِن تنافسيّة هذه الدول على السوق الدوليّة التي يتربّع الغرب المستعمر في مركزها. الاستيراد سيكون محدوداً في هذه الحالة؛ السيارة، الهاتف المحمول، هذه المنتجات تصمّم في كاليفورنيا وتصنّع في الصين عبر بنية صناعية مهولة، لن تكون متاحة لك كما هي متاحة في الغرب وفي دولٍ تنتهج الدين والتبعيّة.
هنا يكمن السؤال الجوهري: ما هو خيارك السياسيّ؟ المقاومة وما يترتّب عليها أم الخضوع والرضى بما سيسقط لك من الشجرة؟ الخضوع في كثير من الأحيان يعني الدوران في حلقة مفرغة من انظمة فاشلة تحكمها نخبٌ فاسدة كومبرادوريّة لن تدفع عن شعبك البرد ولن تقيه من جوع.
يوضح سمير أمين احتمالاً أخر يمكن لدول الأطرف انتهاجه؛ أن يصبح سكّانها وقوداً للمحرقة حرفياً، أي أن يموتوا من أجل خلق القيمة في اقتصاد أميركا مثلاً عبر زيادة نفقاتها على المجمّع العسكري المهول، لا عبر استخراج القيمة من العمل بالمعنى الماركسي الكلاسيكيّ.
خاتمة: الاشتراكية وأخواتها كحلّ؟
لا تكون الاشتراكيّة أو سيطرة الدولة على مفاصل الاقتصاد في غالب الأحيان ترفاً أو خياراً، حيث أنّ أخذ دولة لقرار المواجهة سيضعها مباشرةً على لائحة العقاب والقصاص، أو يستجلب الحرب نحو بابها بطريقة أو بأخرى. في هذا الحالة تصبح السيادة على الاقتصاد، والمتمثّلة بشكلها الأساس عبر تعويض الناقص من الضروريّات المعيشيّة هدفاً ضرورياً، في ظلّ سوقٍ دوليّةٍ خانقةٍ ونظامٍ دوليٍّ يدفع الدول الضعيفة للتخصّص في تصدير سلع تملك "قيمة تفاضلية" أكبر، كالنفط والكاكاو والقهوة... لبنان كدولة مجتزأة من إطار سياسي-اقتصادي أشمل تاريخياً، على الرغم من تمتّعه بمميّزات جغرافية تجارية مميّزة، لن يستطيع عمليّاً ولأسباب عديدة أن يكون كوريا ولا كوبا المتوسّط كما تخيله قادة الحركة الوطنيّة يوماً. كما لن يكون قادراً على الاستمرار بنمط الرّيع والمعيشة نفسه إن توجّه نحو إحداث تغيير سياسيّ ينقله نحو الخندق الآخر بشكل كامل. بعد خرق التوازن القائم فيه منذ انتفاضة 1958 حيث ترسّخ مفهوم "ليس لنا ولكن ليس لعبد النّاصر بالتأكيد"، ما الذي سيدفع المركز الغربي ومؤسساته لتمويل ديون "دولة مارقة"؟
إن البدء بأيّ نقاشٍ حول الاشتراكية أو التحرّر الاقتصادي في لبنان يفترض إعادة النظر في تموضع لبنان الدوليّ، وطرح احتمالات غير معهودة في لغة خطابه السيّاسيّ. يصبح الكلام حول تعزيز الروابط مع الحلف المناهض للولايات المتّحدة من الضروريّات ويخرج من دائرة التنظير السياسيّ والخيال متى ما أصبح وجود مواطني البلد الصّغير المحاصر على المحكّ. يصارع المحور المناهض للولايات المتّحدة في هذه الأثناء للحفاظ على الطريق البرّي الذي أمنّه عبر العراق وسوريا باتجاه لبنان، للسبب نفسه الذي يستميت فيه حلف الناتو لإغلاقه بسبب الإمكانيّات والاحتمالات التي يطرحها على الطاولة.
تبدو الاحتمالات المطروحة بعيدةً حالياً، إلّا أن الصعوبات والأوقات المريرة تظهر دائماً في التاريخ كعامل محفّز ومسرّع في التحوّلات المادية كما في وعي الشعوب. تبدأ هذه الاحتمالات من عقد اتفاقيات تعاون تجاريّة، وتصل إلى إعادة النظر بحدود سايكس بيكو، التي تنتهي الحاجة لها عند فشل لبنان كدولة ونظام طائفيّ. في الواقع لا يمكننا النظر إلى "إصلاحات" رفيق الحريري الماليّة خارج إطارها الطبيعي؛ أي تأبيد انعزال لبنان عن محيطه والتّمهيد لسلام مع "إسرائيل"، كحبّة الكرز النهائية فوق مشروعه النهائي، لبنان: المصرف، الفندق والحانة.
لن يكون إخراج الغربيين من المنطقة سهلاً، على الرغم من أن ذلك من البديهيات متى ما أرادت هذه المنطقة أن تنهض. يظهر وجود الكيان الصهيوني كـ"حاملة طائرات بريّة" مرتبطةٍ به مصيرياً على هذه البقعة الجغرافية، متماشياً مع ما يريده الغرب لنا، البقاء في حالةٍ مستمرّةٍ من الفوضى والفقر والتبعيّة، واستخدام الصهاينة كإسفين وسوطٍ في آن.
كان اغتيال الحاجّ قاسم سليماني نقطة تحوّل مهمّة في هذا الصراع، دفعت الجمهورية الإسلاميّة لإعلان فتح معركة طرد الوجود الغربي من المنطقة. قد تطول أو تقصر هذه المعركة، في هذه اللحظات أميل عفوياً إلى مبدأ "تجنّب الخسارة" (loss aversion) وهو مبدأ في علم النفس الإدراكي: يتلخّص في حالتنا هذه في أن "الخاسرين" من هذا النظام العالميّ لديهم الكثير ليربحوه والقليل ليخسروه، فيما الرابحون لديهم الكثير ليخسروه والقليل ليربحوه، أو بمعنى آخر كما يصرّح قولٌ رومانيّ عتيق: الحظّ بجانب الجسور (audaces fortuna iuvat)
Related Posts
كاتب لبناني مقيم في إيطاليا