إن الحكم على حاكمية مصرف لبنان سهلة جداً. فليس بالجوائز والصور تقوم السياسات النقدية ولا بمقولة 'الليرة بخير ومتينة'" يتحقق الاستقرار النقدي. الحل سهل وبسيط، يجب إعداد قانون عصري يحل مكان قانون النقد التسليف المهترئ، ويجب تعيين أصحاب الكفاءة، وهم كثر."
في تقييم حاكمية مصرف لبنان
حاولت جاهداً الحصول على عدد الجوائز التي نالها رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، خلال تولية الحاكمية لحوالي ثلاثة عقود من الزمن، لكنني اعترف بالاستسلام لكثرتها. العدد هائل ومن المرجّح أن سلامة يزيّن جدران بيته ومكاتبه بصور استلام تلك الشهادات، بالإضافة إلى صور حفلات التكريم والكوكتيل، ليس لأفضل مصرفي وأفضل مدير وأفضل رئيس مصرف مركزي مر على لبنان بل على العالم النامي والاسواق الناشئة مجتمعة. لن أدخل هنا بجدال أو تقييم لتلك الجوائز والشهادات، وإن كان لدي تحفظ على قيمة وكيفية توزيع تلك الجوائز عامة وشهادات التقدير خاصة.
دفعني كل هذا لمحاولة تقديم علمي وتقني لماهية معنى حاكمية أي مصرف مركزي ودور الشخص الأول في هكذا مؤسسة. شهدت عمليات المصارف المركزية في العقود الثلاثة الماضية تطوراً نوعياً لدورها في عملية استقرار النظام المصرفي العام وإدارة التضخم وإدارة سعر الصرف وكيفية التعامل مع الدورة الاقتصادية عموماً.
الدور الاول والأساسي للمصرف المركزي ضمن السياسات النقدية الطويلة الأمد هو استقرار الأسعار (التضخم) أو ما يعرف بـ ((Price Stability. استقرار الاسعار أو لجم التضخم هو عامل أساسي في عملية النمو الاقتصادي. وفي الآن عينه، استقرار الأسعار يؤدي إلى التركيز على إدارة السياسة النقدية على المدى البعيد، ويلجم قدرة المصرف المركزي على اتباع سياسات توسعية قصيرة المدى. ليس في سجل المصرف المركزي اللبناني ما بعد الحرب الأهلية أي سياسات ترسم حدود استقرار الأسعار أو حتى تدعم النمو الاقتصادي الطويل الأمد. قد يزعم الحاكم الحالي أن قانون النقد والتسليف لا يضع تلك السياسة النقدية ضمن صلاحياته، لكن الجواب واضح: هذه السياسات تم تطويرها دولياً وجرى اعتمادها ما بعد عام 1995، أي أن الحاكم الحالي لم يطلع عليها وهذا بحد ذاته إدانة، أو أنه علم بها ولم يقم بأي محاولة لتقديم مقترحات لقانون النقد والتسليف، وهذا أيضاً تقصير فاضح وعمل لا يمثل "أفضل حاكم مصرف مركزي".
الدور الثاني: التثبيت الإسمي، أو ما يعرف بـ ((Nominal Anchor. على سبيل المثال، تقع إدارة الكتلة النقدية بشقيها الواسع والضيق، ضمن أهداف التثبيت الإسمي. أو تحديد معدل تضخمي عند 3% سنوياً أو بين 0 و2%، على سبيل المثال. قد يكون جواب المصرف المركزي أن تثبيت سعر الصرف يقع ضمن هذا الهدف. لكن الجواب واضح، تحول هذا الدور خلال 30 سنة، ما بعد الحرب، إلى أن يكون الهدف الأساسي، وبعيداً عن أي دور آخر. إدارة سعر الصرف كتثبيت اسمي تختلف عن تثبت سعر الصرف كهدف مطلق، والحال الذي وصل إليه لبنان هو خير جواب على ذلك.
الدور الثالث: على المصرف المركزي أن يكون واضح الهدف في سياساته النقدية. الاختلاف الأساس لوضوح أهداف السياسة النقدية عن أدوات السياسة النقدية، هو عنصر أساس في فهم ادارة السياسة النقدية. فمثلاً، إذا تم تحديد نسبة البطالة المقبولة كهدف أساسي، فعلى المصرف المركزي أن يستعمل جميع أدواته النقدية لخفض معدلة البطالة إلى الحد المطلوب. وهنا نجد أن المصرف المركزي اللبناني ليس لديه هدف واضح ما عدا استقرار سعر الصرف، الذي تحول عبر السنوات إلى تثبيت لسعر الصرف. والاختلاف بين الاستقرار والتثبيت هو لب الأزمة النقدية التي يمر بها لبنان حالياً.
الهدف الرابع: على المصرف المركزي أن يكون خاضع للمساءلة. هذا الهدف واضح وضوح الشمس، المصرف المركزي ممثلاً بحاكمه يجب أن يخضع للمساءلة البرلمانية والمؤسساتية والشعبية وحكماً القانونية. العمل ضمن المؤسسات الديمقراطية تضمن سلامة ممارسة الشأن العام وتصحيح الأخطاء. مصرف لبنان بإدارته الحالية أثبت أنه لا يخضع للمساءلة المؤسساتية والبرلمانية. وخير مثال على ذلك هو الهندسات المالية التي نفذت بعد العام 2016، وهي اتفاقيات بعيدة عن الشفافية، ولا تشبه الهندسات المالية بما هي أدوات ممنوحة للمصرف لإدارة السياسة النقدية.
الهدف الخامس: الشفافية ومخاطبة الجمهور ((Transparency and Communications. هناك طرقٌ مختلفة تمارسها المصارفُ المركزيّةُ المعنيّة بممارسة السياسة النقدية الفعالة بعيداً عن الصدمات ومن أسسها مخاطبةُ الجمهور. المصارف المركزية، بشخص رئيسها، تخاطب الجمهور عن أهداف سياستها النقدية وكيفية تنفيذ تلك السياسات. وفي كل مرة تتغير أدوات السياسات النقدية إن لناحية استعمال أسعار الحسم أو الفائدة اليومية المعتمدة، على سبيل المثال لا الحصر، يقوم المصرف المركزي بتفسير سياساته وما يرجو منها بأعلى مستويات الشفافية. ومن أهم أساليب الشفافية ومخاطبة الجمهور هو الإعلان والإفصاح عن محاضر الاجتماعات الدورية. يضاف لهذه الأساليب الدراسات والتقديرات للمؤشرات الاقتصادية كافة، وتقديم خريطة عمل واضحة المعالم لكيفية مواكبة الوضع الاقتصادي العام على المدَيَين المنظور والطويل الأمد.
في الحالة اللبنانيّة، لا يخاطِب المصرفُ المركزيّ، بشخص رئيسه، الناسَ ولا الجمهور العام. أما الدراسات الدورية والتوقعات الاقتصادية فلا وجود لها بالمطلق. ومن المؤسف أن الميزانية العمومية التي ينشرها المصرف المركزي بحاجة إلى عملية تبصير لفهم تفاصيلها. وفي حال مخاطبة الجمهور يقوم الحاكم بالمخاطبة بشكلٍ سيّئ. هو حتى لا يمتلك سياسات واضحةً بل مجموعة أقوال وخبريات تصلح لصبحية فنجان قهوة. ومن منا ينسى الأوراق المكتوبة بخط اليد التي قدمها الحاكم للحكومة!
نسبة لما أوردناه أعلاه، فإن الحكم على حاكمية مصرف لبنان سهلة جداً. فليس بالجوائز والصور تقوم السياسات النقدية ولا بمقولة "الليرة بخير ومتينة" يتحقق الاستقرار النقدي. الحل سهل وبسيط، يجب إعداد قانون عصري يحل مكان قانون النقد التسليف المهترئ، ويجب تعيين أصحاب الكفاءة، وهم كثر. وطبعاً يجب ألا ننسى أن ننشئ متحفاً جديداً تمتلئ جدرانه بجوائز الحاكم، فحيطان المكتب والمنزل لا تكفي!
"Related Posts
كاتب وباحث اقتصادي لبناني