باتت عبارة 'المعابر غير الشرعية'" لازمةً في كل خطابات '"السياديين'" الذين لم يكن لديهم أيّ تحفظٍ على دور المعابر غير الشرعية المحوري، خلال الحرب السورية منذ عام 2011، في ضخ السلاح والمسلحين إلى سوريا واستيراد النازحين والمنشقين كما هي الحال في معابر شبعا-جباتا الخشب، وفليطا-عرسال، وبركة الرصاص-مجدل عنجر... كما لم يكن لديهم مشكلة مع تلك التي كانت تستقدم الإنتحاريين والسيارات المفخخة من القلمون السوري إلى بعلبك والضاحية الجنوبية"
فزّاعة المعابر غير الشرعية في زمن الإفلاس
سارع الجيش اللبناني منتصف آذار/مارس الماضي إلى إتخاذ سلسلة من الإجراءات لضبط "المعابر غير الشرعية" مع سوريا في منطقة البقاع الشمالي بعد حملةِ تهويلٍ واسعة تناولت خطر إنتقال فيروس كورونا من سوريا إلى لبنان، رغم أن سوريا حينها لم تكن قد سجّلت أية إصابة فيما كان عدّاد الإصابات اللبناني قد سبق نظيره السوري بشهر أي أنّ الاجراء لم يكن ذا قيمة صحيّة. كان من الأحرى أن تتعالى أصوات المواطنين السوريين للمطالبة بإغلاق الحدود مع لبنان لا العكس، لكن الشوفينية اللبنانية لعبت دورها كالعادة في استحضار اللاوعي المُصطنع الذي يرى أن الشرور لا تأتي إلا من الشرق فيما تتدفق الرياحين من باقي الجهات!
وكالعادة فإن للبنان خصوصيّته في كل شيء، فعبارة "المعابر غير الشرعية" في لبنان لا تماثل أي وصف لثغرات التهريب الحدودية بين الولايات المتحدة والمكسيك أو في المثلث الحدودي اللاتيني أو في أي بقعة من العالم.. بل هي ككلّ المصطلحات الدارجة في الحياة السياسية اللبنانية اليومية مرادفٌ لـ"أشياء" كثيرة لها أبعاد أعمق وتحمل دلالات شتى، طائفية ومناطقية وسياسية، بحيث تُصوّر هذه المشكلة المحدودة جداً والتي يربو عمرها على القرن من الزمان كأنها أبرز أسباب مشاكل اللبنانيين الإقتصادية المستجدة وتُلصق زوراً بطائفةٍ ومنطقةٍ دون سواها!
تمتدّ الحدود اللبنانية مع سوريا على مسافة 375 كلم تنتشر عليها 38 نقطة عسكريةً مجهزة بمعدات حديثة تابعة لأفواج الحدود البرية في الجيش اللبناني (بدعم بريطاني) وقرابة 136 معبراً غير شرعيٍّ تمتد من عكار إلى الهرمل فبعلبك فزحلة فراشيا فمرجعيون، بينها حوالى 13 معبراً فقط تحظى بتسليط إعلامي هي المعابر الواقعة بين القاع والهرمل بالبقاع الشمالي حيث المنطقة الأكثر إهمالاً وحرماناً من قبل الدولة اللبنانية وحيث تتداخل القرى ذات الغالبية اللبنانية على جانبي الحدود في يسمى بحوض العاصي الذي طالب أهلهُ مراراً بإستحداث معبر شرعيٍّ في بلدة القصر يوفّر عليهم سلوك المعابر غير الشرعية ويصلُهم بممتلكاتهم وأشغالهم ومدارسهم ويربط بين عائلاتهم على جانبي الحدود (آخرها مطالبة المديرَ العامّ للأمنِ العامِ اللبناني خلال مراسم إعادة افتتاح معبر جوسية في شباط 2017).
فرضت الدولة السورية سلطتها على كامل المنطقة المحاذية للحدود مع لبنان خلال السنوات الماضية، وعمدت أجهزتها منذ قرابة العام إلى تشديد إجراءاتها برفع السواتر وتدمير جسور التهريب الخشبية وتسيير دوريات ونصب كمائن لمنع تسرّب السلع السورية "المدعومة" إلى خارج البلاد. للتهريب أثر سلبي بالغ على الأمن الإقتصادي السوري - بالتزامن مع إنخفاض سعر صرف الليرة السورية - لاسيما في أسواق المناطق القريبة من الحدود التي بدأت، حينها، تعاني من ارتفاعٍ جنوني للأسعار وفقدانٍ للمواد المدعومة، حيث يُفضّل التجار الجشعون تهريب السلع المدعومة إلى لبنان كي يستفيدوا من هامش الربح الواسع. أما في لبنان فيتمّ تحميل المعابر غير الشرعية مسؤولية الأزمة الإقتصادية الراهنة وتسود قناعةٌ راسخة في أذهان معظم اللبنانيين أنّ التهريب على الحدود هو باتجاهٍ واحد ويصب في مصلحة الحكومة السورية على خلاف الواقع الواضح، إذا أنّ السلع التي يتم تهريبها إلى سوريا غالبيتها أجنبية وغير مدعومة بل مدفوعة الضرائب (المحروقات والاسمنت بشكل رئيسي) فيما تُشكّل المواد الغذائية المدعومة من الحكومة السورية النسبة الأكبر من المواد المهربة إلى لبنان. وإذا ما قارنّا حجم التهريب في هذه المنطقة المفتوحة الذي يقدر ببضعة ملايين من الدولارات مع حجم التهريب في بعض المرافق، كالمطار ومرفأي بيروت وطرابلس، والتهرب الضريبي الذي تزيد قيمته كثيراً عن ملياري دولار سيتضح لنا أن تسليط الضوء على هذا الملف بالذات لا ينطلق من خلفيات صادقة.
باتت عبارة "المعابر غير الشرعية" لازمةً في كل خطابات "السياديين" الذين لم يكن لديهم أيّ تحفظٍ على دور المعابر غير الشرعية المحوري، خلال الحرب السورية منذ عام 2011، في ضخ السلاح والمسلحين إلى سوريا واستيراد النازحين والمنشقين كما هي الحال في معابر شبعا-جباتا الخشب، وفليطا-عرسال، وبركة الرصاص-مجدل عنجر... كما لم يكن لديهم مشكلة مع تلك التي كانت تستقدم الإنتحاريين والسيارات المفخخة من القلمون السوري إلى بعلبك والضاحية الجنوبية. جميع ذلك يمكن اسثماره للتغيير الديمغرافي وكأوراق ضغط محليّة وإقليمية، فكان طبيعيًّا أن يهاجم هؤلاء "السياديون" الحكومة السورية لقيام قواتها بزرع ألغام على الجانب السوري من الحدود أو نشر كمائن على معابر الإرهاب، ككمين تلكلخ مثلاً.
تتخذ السيادة مساراً إجبارياً واحداً عند هؤلاء إذا لا تجد لديهم إمتعاضاً أو إعتراضاً على عبور القوات الإسرائيلية المتكرر للحدود الجنوبية ولا على مهبط السفارة الأمريكية في عوكر - الذي بات المعبر غير الشرعي الأكثر شهرةً عقب استخدامه لتهريب العميل عامر الفاخوري جواً في وضح النهار وأمام الكاميرات - ولا على مهابط المروحيات المنتشرة في أعالي سلسة جبال لبنان الغربية التي استُخدم أحدها في إنزال قوة كوماندوس إسرائيلية في 19 أب 2006 (ما لبثت أن وقعت في كمين لحزب الله في سهل البقاع)، بل إنّ الشغل الشاغل لهؤلاء يقتصر فقط على المعابر التي لا ينفك الإسرائيليون يشيرون إليها بأنها بوابة برنامج الصواريخ الدقيقة المُهددة للكيان! يُثبت هذا الأمر، بما لا يدعُ مجالاً للشكّ، أن خلفيات الإثارة المستمرة لهذا الملف ليست وطنية. إذ لم تسمح قيادة المقاومة لمقاتليها طيلة تسع سنوات من الحرب أن يعودوا من سوريا عبر معابرها بصندوق خضار أو "علبة برازق" فيما كانت فضائحُ تهريبٍ بالملايين تطالُ نواباً ثلاثة في طرابلس والشمال!
يُفترض أن يقودَنا النقاش حول المعابر غير الشرعية إلى دراسةٍ حقيقية لطبيعةٍ المعاش في المناطق الحدودية وإمكانيات تحويل مشاكلها المزمنة إلى فرص، عبر مراجعة جذرية لطريقة التعاطي مع هذه المناطق تضع في رأس قائمة أولوياتها ضرورة التعاون الأمني لضبط الحدود وفتح البوابات الشرعية مع الجيران وقوننة التبادلات التجارية معهم خارج مظلّة الدولار ضمن خطةٍ واسعةٍ مدروسة للتشبيك الاقتصادي لما فيه من مصلحةٍ وطنيةٍ عليا، عوضاً عن تحويل هذا الملف إلى فزّاعة ومادة للنكد السياسي غير المثمر.
Related Posts
صحيفة الخندق