لن يغير وصول بايدن إلى البيت الأبيض قواعد اللعبة في السياسة الخارجية الأميركية بشكل كبير. وبعيداً عن التفاصيل، تبدو الخيارات مرهقة بالنسبة لوزارة الخارجية الأميركية اليوم. إذ يتشارك الديمقراطيون والجمهوريون - بشكل أو بآخر - نفس الخيارات القائمة على تجديد الهيمنة العالمية للولايات المتحدة
عالم في طور الأفول
المشهد السياسي:
ريشار لابفيير: كاتب وصفحي فرنسي
لن يغير وصول بايدن إلى البيت الأبيض قواعد اللعبة في السياسة الخارجية الأميركية بشكل كبير. وبعيداً عن التفاصيل، تبدو الخيارات مرهقة بالنسبة لوزارة الخارجية الأميركية اليوم. إذ يتشارك الديمقراطيون والجمهوريون - بشكل أو بآخر - نفس الخيارات القائمة على تجديد الهيمنة العالمية للولايات المتحدة، وهو ما بات اليوم محل سؤال داخل الولايات المتحدة وخارجها. ومع ذلك، لا تزال طروحات الهيمنة قائمة داخل أروقة الإدارة الأميركية.
مع بايدن، سيكون أسلوب التعامل مع الملفات أقل خشونة من أسلوب ترامب. ستستفيد أوروبا من حقبة بايدن إلى أقصى حد. هي تحاول استعادة ريعية الوضعية التي فقدتها مع ترامب. برأيي، سيستعيد الأوروبيون بعضاً من الخبرة الأمريكية في الحياة، على المستويين السياسي والاقتصادي، ولكن فيما يتعلق بعمق المخاطر، فإننا للأسف سنبقى نسير في هدي سُعار وهوس برنامج "أمريكا أولاً".
من هنا، يمكن النظر إلى جملة من الملفات التي باشر ترامب للإيفاء بها تجاه ناخبيه. انسحاب الولايات المتحدة "الجزئي" من أفغانستان (بالرغم من احتفاظ واشنطن بوحدات قوامها 2500 جندي) مسألة تأتي في سياق إيفاء بايدن بوعوده الانتخابية في جنبة من جنبات قراءتنا للحدث. إن عنوان "عودة الأولاد" إلى البلاد، والذي رفعه خلال حملته الانتخابية لا شك له دخالة بالانسحاب الأميركي الجزئي من أفغانستان اليوم، إذ يشير إلى أن الرئيس الجديد ينجز ما وعد به، لكن الانسحاب من جهة أخرى يعكس خسارة معينة للنفوذ الأمريكي في الشؤون العالمية. هذه مسألة لا يمكن تجاهلها. أفغانستان التي تقع في قلب آسيا وعلى حدود الصين وإيران، وفي قلب خطوط التجارة العالمية، تخرج من عباءة الولايات المتحدة، هذا في النهاية، يتوافق مع ظهور عالم متعدد الأقطاب، وهذا خبر سار بالنسبة لنا، وهو أيضاً مدخل لمحاولة استشراف معالم العالم الجديد، إذ ستكون طهران قادرة على ترسيخ نفوذها في هذه المنطقة الاستراتيجية لها. وستكون في وضع متقدم لمد جسور العلاقة، بكل أبعادها – الاقتصادية، الديمغرافية، الأمنية، السياسية) مع الصين. وسيواصل الجيش الإيراني تقديم العون والدعم للجماعات الموالية له في أفغانستان، بما يُعزز من تنويع منافذ إيران التجارية والاقتصادية مع قلب آسيا ومحيطها الشرقي.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، سيصب الانسحاب الأميركي من أفغانستان في مصلحة إيران بشكل خاص، لناحية ارتباطه غير المباشر بالمفاوضات الإيرانية – الأميركية. فإيران غير المحاصرة ستكون بموقع تفاوضي أفضل، وإن كنت أميل للاعتقاد بأن الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن سيعود وسيوقَع، بغض النظر عن شكله ومضامينه التفصيلية. إن هذا الاتفاق ضرورة تاريخية إلى حد ما ولا يمكن لأي من الشريكين تحمل مسؤولية حدوث قطيعة في هذه القضية الحاسمة من أجل السلام والتوازن العالميين. بالتأكيد يمكن ألا يكون اتفاقاً دافئاً، لكن ثمة حاجة للطرفين ولغيرهما من دول العالم بأن يكون هناك اتفاق إطار الحد الأدنى بين الطرفين.
سيرخي الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة بظلاله على العالم، وعلى الشرق الأوسط بنحو خاص. لذا، فلنفترض أننا بعيد أشهر قليلة سنكون أمام اتفاق، ولو فاتر، سينعكس على كل من لبنان، العراق، سوريا، واليمن. إن الوضع والموقف في هذه البلدان المختلفة سيتغير إلى حد ما ربطاً بالاتفاق. بالنسبة للعراق، الذي تم تفكيكه منذ الاجتياح الأميركي ربيع عام 2003، سيواجه تحدي إعادة الإعمار ولا أرى أفقاً أو انفراجاً في وضعيته. العودة إلى الحضور بشكل استراتيجي في المحافل الدولية ستكون أكثر صعوبة. بالنسبة للبنان، معبر كل الأزمات الإقليمية، سيكون الأمر أكثر تعقيداً. فالاتفاق الإيراني الأميركي لن يشمل دولاً كلبنان والعراق. أخيراً، في اليمن، أعتقد أن الأكثر تأثراً بالاتفاق النووي. إذ سيتم تعزيز وضع الميليشيات الموالية لإيران، وكذلك سيتعزز النفوذ الإيراني في هذا البلد، حيث السكان المدنيون هم الأكثر تسليحًا في العالم. هذا سيرخي بثقله على الخليج بشكل كبير.
في هذا الفضاء من الواقع السياسي، لا أتصور دوراً كبيراً لأوروبا في الشرق الأوسط. أوروبا تتداعى. مبادرات كمبادرة إيمانويل ماكرون في لبنان ستسير ببطء دون تأثير مذهل. لا يعود الأمر لأسباب أوروبية محضة. بل لأن مشاكل دول كثيرة في الشرق الأوسط صارت أعصى على الحل. في لبنان مثلاً، تحاول مبادرة ماكرون إنقاذ أو إصلاح نظام في حالة انحدار كامل، والمخرج الوحيد لنجاحها سيكون - على أي حال - بإعادة بناء النظام لنفسه. يمكن القول إن هذا التدخل من قبل الرئيس هو أكثر مبادرات السياسة الخارجية إثارة للاهتمام، والتي اتخذها منذ وصوله إلى قصر الإليزيه على عاتقه. ويمكن أن نرى ثقل الحركة في مثل هذه المبادرة. نحن هنا نتحدث عن مبادرة تجاه دولة صغيرة نسبياً كلبنان. أعرف، أنه من أكثر بلدان الشرق الأوسط تعقيداً، لكن أزماته تبقى دون تكلفة وثقل الأزمات الأكبر. ومع ذلك لا تبدو الأمور سهلة في القادم من الأيام.
ثمة عالم قديم في طور الأفول، وعالم جديد قيد الولادة، في الشرق الأوسط ربما تكون أثمان هذا التحول كبيرة. علينا أن نتفاءل، بالرغم من كل الصعاب.
"Related Posts
كاتب فرنسي