يروي لي 'السنكري'" أحد المقاتلين السابقين في فتح ثم في المقاومة الإسلامية عن الـ'"نيو جرسي'" قبالة شاطئ بيروت. '"السنكري'" من تلامذة الشهيد القائد علي حسن ديب '"أبو حسن سلامة'" أو '"خضر'" كما كان يسميه '"الختيار'" ياسر عرفات، يتحدث الرجل الذي كان في الرابعة عشر من عمره حين امتشق سلاحه دفاعاً عن بيروت، عن المدمرة الأميركية التي كانت بمثابة وحش لا يقهر يخيم على شاطئ المدينة"
صيف بيروت 2020... خريف واشنطن 1983
يروي لي "السنكري" أحد المقاتلين السابقين في فتح ثم في المقاومة الإسلامية عن الـ"نيو جرسي" قبالة شاطئ بيروت. "السنكري" من تلامذة الشهيد القائد علي حسن ديب "أبو حسن سلامة" أو "خضر" كما كان يسميه "الختيار" ياسر عرفات، يتحدث الرجل الذي كان في الرابعة عشر من عمره حين امتشق سلاحه دفاعاً عن بيروت، عن المدمرة الأميركية التي كانت بمثابة وحش لا يقهر يخيم على شاطئ المدينة، كيف كان من تبقى من المؤمنين بقتال "اسرائيل" وأعوانها في بيروت لا يملكون إلا الدعاء على هذا الوحش الأسطوري؛ ويحكي ساخراً عن بعض المبادرات الفردية من شباب مقاوم كان يطلق النار من رشاش "دوشكا" صوب المدمرة المتمركزة في عرض البحر محاولين "مضايقتها".
يكاد لا يخلو مفصل في تاريخ لبنان الحديث من التدخلات الأميركية ولعل أكثرها فداحة هي التدخلات العسكرية عام 1958 بعد أن تم إنزال 1700 جندي من قوات مشاة البحرية "المارينز" على شواطئ بيروت لدعم ما وصف يومها بالشرعية اللبنانية ليصل عديد هذه القوة في ما بعد الى 15000 جندي. توالت إنزالات المارينز فكان التدخل الثاني عام 1967 إبان الحرب الأهلية واقتصر التدخل حينها على إجلاء الرعايا. التدخل الثالث كان عام 1982 بعيد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت لإجلاء الرعايا أيضاً، فيما التدخل الرابع كان في العام نفسه نتيجة خطة أمنية بعد حصار بيروت من أجل الإشراف على انسحاب المقاومة الفلسطينية منها، وكان عديد القوة حوالي 800 جندي. آخر التدخلات (العلنية) كان في آب - أيلول عام 1982 حيث قام الأميركيون بإنزال قوة من المارينز في مرفأ بيروت لتتخذ في ما بعد مقراً لها قرب مطار بيروت (مقر قيادة ومقر رئيسي)، ومقر آخر بالقرب من كلية العلوم إلى جانب حي السلم (مقر دوريات ومراقبة) تحت ذريعة مساعدة وتدريب الجيش اللبناني. تبين في ما بعد أن هدف القوة الأميركية كان القضاء على خلايا المقاومة اللبنانية التي نشأت بعيد الاجتياح الصهيوني وانسحاب المقاومة الفلسطينية من لبنان. الجدير ذكره أن نيران مدفعية وبوارج هذه القوات تدخلت عدة مرات لمساندة الجيش اللبناني الذي كان يومها طرفاً في الاقتتال الداخلي في لبنان.
يذكر البعض أنه وقبيل انسحاب الفدائيين الفلسطينيين، تقاسمت التنظيمات المنضوية تحت مسمى الحركة الوطنية آنذاك تركات المقاومة الفلسطينية من عتاد وآليات وغيرها من مكتسبات مادية، فيما برز من بين قادة هذه التنظيمات شاب يافع كان جل اهتمامه الحصول على ما تركه الفدائيون من متفجرات. يروي أحدهم أن الشهيد الفلسطيني خليل الوزير "أبو جهاد" ربت على كتف الشاب وقال للحاضرين: "هذا وحده الذي يريد فعلاً أن يكمل النضال".
لم تمضِ بضعة أشهر حتى كانت هذه المتفجرات تحيل مبنى الحاكم العسكري الصهيوني في صور إلى ركام. أحمد قصير كان الاستشهادي الأول الذي أيقظ العدو من وهم القضاء على المقاومة. فجر الـ23 من تشرين الأول/أوكتوبر 1983 استيقظت بيروت على دوي انفجارين حوَّلا خلال ثوانٍ مقري المارينز والمظليين الفرنسيين في بيروت إلى ركام.
سبق تفجير مقر المارينز بضع عمليات استهدفت هذه القوات، أسفرت إحداها عن جرح 5 من عناصر المارينز الذين قام قائد الجيش آنذاك الجنرال طنوس بتقليدهم وسامي الحرب والجرحى وبحملة اعتقال واسعة في مناطق الضاحية الجنوبية بحثاً عن المنفذين.
بحسب بعض المصادر الأميركية، عُدّ الانفجار أعتى انفجار غير نووي على سطح الكرة الأرضية، كما تذكر المصادر نفسها أن الخسائر الأميركية عدّت الأكبر من جراء هجوم واحد بعد هجوم خليج پيرل هاربور الذي قام به اليابانيون. المصادر نفسها تروي أن الاستشهادي شوهد من قبل الحارس (الذي نجا من التفجير) على باب المقر مبتسماً قبل أن يدخل بشاحنته ويدمر المقر بأكمله.
قبيل أسابيع، ذهب كثيرون إلى تشبيه انفجار مرفأ بيروت بانفجار هيروشيما في اليابان، لا شك في أن التوصيف العلمي للانفجارين مختلف لكن المسبب لهما نفسه، تنفيذاً واستغلالاً.
فرضية العمل الأمني الإسرائيلي أو الأميركي (متلازمة مع إهمال المعنيين أو حتى تواطؤهم) في تفجير بيروت مسألة لا يمكن استبعادها، في هيروشيما وناغازاكي كان العمل الإجرامي في جهاراً، وكان ثأراً لنكأة بيرل هاربر ولو بعد حين. هل يمكن أن يكون تفجير المرفأ في بيروت ثأراً للمارينز ولو بعد حين؟.
بُعيد تفجيري تشرين الأول/أوكتوبر 1983 بقليل، قدم إلى بيروت على وجه السرعة كل من الرئيسين الفرنسي والأمريكي. اكتفى الأول (فرنسوا ميتران) بقول كلمة واحدة، "نحن باقون هنا". قال الثاني (رونالد ريغان) بما معناه أن الذي حصل لن يجعلنا نتراجع، وتساءل عما سيحدث لـ"اسرائيل" بحال تركنا لبنان مؤكداً أنه سيبقى؛ في النتيجة انسحبت القوتان نهائياً بعد أسابيع قليلة في شباط/فبراير 1984. والكل يعرف ما حل بـ"اسرائيل" في لبنان بعد ذلك.
عام 1983 أنزل الأميركيون الكتيبة الأولى من لواء المشاة البحرية الثامن (خرجت هذه الكتيبة نهائياً من الخدمة بعد الهزيمة التي منيت بها في بيروت حيث فقدت أكثر من ثلثي عديدها بين قتيل وجريح)، اليوم استبدل الأميركيون الإسم وأطلقوا على قواتهم إسم "قوة مهمة" كمحاولة للإيحاء بأن عديد القوة ليس من عديد الجيش النظامي. تسمى القوة الموجودة اليوم في بيروت باسم قوة المهمة الخامسة، وتأخذ من قبرص مقراً لها لحين انتهاء القاعدة المزمع انشاؤها في عوكر. يتشابه مشهد اليوم ومشهد المارينز 1983 إلى حد ما، وقد تكون القوى المستكبرة مراهنة على نفس السيناريو، وقد يقود الشعور الملازم لإدارات قوى الشر في هذا العالم أنها "رب الشعوب الأعلى" إلى حفلة جنون أخرى، لكن ما لا يدركه هؤلاء أن الشاب اليافع الآنف ذكره قد ربى جيلاً من الشباب الذين أفنوا عمرهم بالتجهيز والتحضير لمقارعة الاستكبار، وأن الروح التي زرعها هذا الشاب بعد أن قدم نفسه شهيداً ونموذجاً لأبنائه لا زالت تسري في أجساد الشعوب الحرة. ما لا يدركه الاستكبار العالمي أن الـ"نيو جرسي" المرعبة أضحت دمية تُحرق منذ تموز 2006 أمام شواطئ بيروت. وما لا يدركه هؤلاء أن البسمة الأخيرة التي رآها جندي المارينز الواقف عند باب مقره الذي دمر، على وجه الاستشهادي المجهول حتى يومنا هذا، هي نذير شؤم سيلاحقهم حتى يسترد المستضعفين كل سنوات القهر بفتح ونصر مبين.
حين تلحق الـ task force 5بالـ Beirut battalionبالقوة أو بالحسنى، سيتلو الفاتحون وعلى ركام الاستكبار من جديد وبإبتسامة "الواثق"، قوله تعالى : "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ".
Related Posts
إسم مستعار لكاتب لبناني