كان سؤال المقاومة بالنسبة للدكتور رمضان سؤالاً كيانوياً بامتياز، منه ينبثق الكوجيتو الفلسطيني المعاصر، 'أنا أقاوم فأنا إذن موجود'". فالتشبث بالأرض، والتمسك بالهوية، ومقاومة المحتل، هي العناوين الكبرى للتعبير عن الضمان الوجودي للشعب الفلسطيني، ولا شيء سواها يحفظ هذا الوجود."
رمضان شلح: المفكّر والسياسي والمقاوم
في أواسط القرن التاسع عشر، وضع الفيلسوف الأسكتلندي توماس كارليل "نظرية الرجل العظيم". وهي نظرية يمكن بموجبها تفسير التاريخ إلى حد كبير من خلال حياة وقرارات وتركات وتأثيرات الرجال العظماء أو الأبطال؛ الأفراد ذوو النفوذ الفريد، الذي يتمتعون بسمات طبيعية حاسمة، مثل العقل الفائق، أو الشجاعة البطولية، أو الإلهام الإلهي. وفي زمن باتت فيه الكتابة عن شخصيات بعينها عملية محفوفة بالمخاطر، قد لا يجد المرء أفضل من هذه الفكرة لاستهلال الحديث عن الدكتور رمضان عبد الله شلح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والذي وافته المنية في السادس من حزيران هذا العام (2020)، في لحظة تاريخية فارقة، تعاظمت فيها الأحداث الكبار، وقلت فيها الرجالات العظام.
الدكتور رمضان شلح، المفكر والسياسي والمقاوم، تنقل ظله على مساحة جغرافية واسعة ليصنع تاريخه الخاص، حاملاً في صدره قضية كبرى تمس روح العالم المعاصر في الصميم. تحرّك في ظل ظروف لم يتم اختيارها ذاتياً، بل صنعها واقع مرير، هو واقع الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، وواقع الفوات الحضاري الذي ألمّ بالأمة العربية. تسلح بإيديولوجيا النضال، التي لم تكن بالنسبة له مجرد شكل من أشكال التعبير عن الوجود الانضباطي المنغلق على يقينياته، إنما كانت المنظار الذي من خلاله يتم تسليط بقعة الضوء على مكامن الظلم والاضطهاد في هذا العالم، والأداة التي تشق بها الأمة طريقها نحو النهوض الكبير. الدكتور رمضان كان مفكراً بلا كتاب يحمل اسمه، وشاعراً بلا ديوان يحمل توقيعه، وسياسياً بلا موقع رسمي في هياكل دولة تعرف بصمته، إلا أنه كان قبل كل ذلك وبعده مقاوماً عنيداً في معركة كبرى، استطاع أن يخلد فيها اسمه وتوقيعه وبصمته.
ونحن في حضرة الغياب الموجع للدكتور رمضان شلح، فإنني لست بصدد تقديم سرد لتاريخ حياته، أو ذكر مناقبه وفضائله، أو تعداد محطاته النضالية واستذكار مواقفه، إنما ما أود الوقوف عنده هنا، هو السمات البارزة التي طبعت حياة الراحل أولاً كمفكر، وثانياً كسياسي، وأخيراً كمقاوم. ذلك أن استجواب سمات القادة الكبار التي مكنتهم من القدرة على النهوض ضد الصعاب، واجتياز العوائق، والصمود في مواجهة التحديات، هي في اعتقادنا أهم ما يتبقى منهم لاستلهام الأمل، وتحديد البوصلة، وتلمّس الهدف، ومواصلة الطريق.
أولاً: المفكر المناضل والوحدوي:
من يعرف الدكتور رمضان، يعلم جيداً قيمة الرجل الفكرية التي ما من شك أنها من طراز فريد. وما يحسب له هنا، أنه اختار ألّا يكون مفكراً تقليدياً منعزلاً يقضي وقته بين الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، أو في التأليف والكتابة والنشر، والبحث عن جمهور مثالي لتلقي أعماله وبحوثه، إنما اختار - بلغة المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي - أن يوظّف ما تعلمه من ثقافة المتأنقين في خدمة ثقافة المتألمين. لذا فإن رياح الشمال التي عاش في وسطها ردهة من الزمن، لم تزحزح هويته، ولم تجمّد انتماءه، بل بقي وفياً لصوت الجنوب، لأن الجنوب بلاده. ويمكننا القول بأن رمضان شلح قد سطّر ما يؤمن به بالمواقف لا بالحبر، وخط قناعته على أرض الواقع لا على الورق. فكان بذلك تجسيداً حيّاً لذلك التجريد البديع الذي وضعه رفيق دربه الدكتور فتحي الشقاقي، أن "المثقف هو أول من يقاوم وآخر من ينكسر".
وما يُسجل للدكتور رمضان أيضاً ومدرسته الفكرية، أنه كان يحرص دائماً على بناء جسور الاتصال بين مختلف التيارات والاتجاهات الممتدة على مساحة العالمين العربي والإسلامي من يمين ويسار، متدينين وعلمانيين، إسلاميين وقوميين، سنة وشيعة، على أن تكون نقطة الالتقاء هي فلسطين وحق الدفاع المقدس عنها. ولا شك أن العقليات الجامعة هي أحوج ما تكون إليه الأمم في لحظات ضعفها وتقهقرها. أحوج ما تكون إلى نماذج لامعة وعقول نيرة، وليس إلى نقّاد غلاظ ومثيري فتن وأدعياء وصاية على عقائد وأفكار الناس، أو قضاة قساة يطلقون الأحكام على من تخلّف عنهم أو من اختلف معهم. هؤلاء النماذج هم مشاعل الفكر الحقيقية الذين يضيؤون الطريق لمن حولهم. وهؤلاء فقط هم من نراهم في ظروف الفوضى والاضطراب دعاة للتغيير والتثويرومعالجين مبدعين، لا ضحايا للظروف والأوضاع القائمة، أو مصابين بعدوى فتن العصور.
ثانياً: السياسي الفذ:
إن الفعل السياسي الذي آمن به الدكتور رمضان شلح هو الحركة القادرة على التغيير مهما بلغت الصعوبات وتعقّدت الظروف. فالحق كما رآه لا يضيع طالما أن وراءه مطالب، و"القوة مهما فعلت فإنها لا يمكن أن تؤسس لحق"، كما يقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. ومعروف أن "علّة الممكن" قد أصابت أطيافاً وفرقاء عدة في هذه الأمة، فاختاروا التنازل عن حقهم تسليماً بالواقع، وساوموا على حقوقهم تحت ذريعة البراغماتية. إلا أن الدكتور رمضان ورفقاءه اختاروا لأنفسهم شعار "الواجب في مواجهة الممكن". ومارسوا السياسة على أنها فن التوفيق بين أوجب القيام به، وما أمكن تحقيقه. ولم يكن التوفيق بمعنى التنازل أو التراجع أو المساومة، إنما كان التمييز بين الإستراتيجيا والتكتيك، والتفريق بين العابر والنقطة الحاسمة، والفصل بين المتدرج والمؤقت والمشروط، واختبار الأدوات والأساليب في التعامل مع قضايا عملية وسياسية بأبعاد متعددة.
من هنا، لم تكن السياسة بالنسبة للدكتور رمضان وحركة الجهاد عبارة عن شبكة علاقات عامة، إنما كانت تحالفات إستراتيجية صلبة تُعنى بتحقيق الغايات الكبرى والوصول إلى الأهداف المنشودة. فاقتصرت علاقاته القوية على دول بعينها، وحركات تتحرك في نفس الإطار الإستراتيجي، وتحمّل في سبيل ذلك سيلاً من الانتقادات لم تحرفه عن مساره، ولم تخلخل رؤيته المتماسكة والمتينة. كان يدرك تماماً أن كثيراً من المطالب المحقة قد تضيع في ثنايا الخطاب التائه، وفي دهاليز الارتباطات المشبوهة والعلاقات الملتبسة.
ثالثاً: المقاوم العنيد:
كان سؤال المقاومة بالنسبة للدكتور رمضان سؤالاً كيانوياً بامتياز، منه ينبثق الكوجيتو الفلسطيني المعاصر، "أنا أقاوم فأنا إذن موجود". فالتشبث بالأرض، والتمسك بالهوية، ومقاومة المحتل، هي العناوين الكبرى للتعبير عن الضمان الوجودي للشعب الفلسطيني، ولا شيء سواها يحفظ هذا الوجود. وكان الدكتور رمضان يرى بأن التجربة التاريخية للاحتلال من جهة، والاستعمار من جهة ثانية، هي تجربة مشتركة. بل أن الاحتلال يشكل لباب المشروع الاستعماري وما تبقى منه في المنطقة العربية والإسلامية. لذا كان يعتقد بأن ثقافة المقاومة بكل أشكالها، من القلم إلى الصاروخ، بما هي تجسيد لإرادة الشعوب في حدود المكان والجغرافيا هي الكفيلة بمواجهة الأولى، والمقاومة الثقافية المرتبطة بالزمن والهوية هي الكفيلة بمواجهة الثانية. وبذلك كانت المقاومة في فكر الدكتور رمضان هي الخيار الإستراتيجي لاسترداد الأرض ومواجهة العدوان المحدق بكل مكونات الأمة، وهي الحمية الموجبة لتفادي الفقدان العمومي للذاكرة.
وعلى الرغم من نضوب حالة الدعم لحركات المقاومة على المستوى الرسمي العربي، إلا أنه كان "لا يستوحش طريق الحق لقلة السالكين فيه"، وتمكّن مع حركته من الحفاظ على شعار "لا مساومة على خيار المقاومة". استمد من الإسلام بما فيه من طاقة روحية وقوة حية ودافعة صلابته وثباته. تجنّب المفاهيم الإشكالية والمفردات التقليدية والقضايا الخلافية في فكر بعض الحركات الإسلامية التي دعت لاستهلاك القديم المعطل، وتركزّت رؤيته الوقّادة على العناصر الحيوية التي تبقي جذوة التحدي في ساحة الصراع مشتعلة. استحوذت ثلاثية الإسلام وفلسطين والمقاومة على وعيه وحركيته، فاحتضنها وتماهى معها ليدخل التاريخ من أبوابه الواسعة بتجربة رائدة.
كثيرون لا يعرفون الخسارة الكبيرة التي تكبدتها فلسطين برحيل القائد الوطني الكبير الدكتور رمضان شلح. وكثيرون أيضاً لا يدركون ماذا فقدت المقاومة بوفاة واحد من أغلى رجالاتها. ولكن التاريخ كفيل بأن يسجل شهادته لهذا الرجل الذي أفنى عمره في خدمة القضية الفلسطينية، وسخّر نفسه للعمل المقاوم.
في الختام، لا يسعنا إلا أن نقول بأن رمضان شلح هو أحد المنارات المضيئة في الخندق الذي اصطفت فيه جموع المدافعين عن حقوق المستضعفين والمظلومين والمقهورين في هذا العالم المضطرب، ليوحدوا صوتهم إعلاء للحق، ويعلنوا تمسكهم بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
"Related Posts
كاتب فلسطيني