درج الكلام عن يمين ويسار والمسافات المتفاوتة بينهما في البيئة التركيّة كغيرها. وبما أن الحديث عن توجهات سياسيّة، فهي مرتبطة نوعاً ما بالدولة الحديثة ونشوءها، يعني قد يُفصّل الأمر هنا ضمن بيئة القرن التاسع عشر رجوعاً. هنالك نجد انتماءات متفاوتة في بنية الدولة ولكن تحت معنىً آخر، هي النزعة العثمانية، تجد فيها التوجهات التي تبغي إعادة الأصول الراشدية الأولى، والأخرى التحديثية التغريبية
بين العثمانية والأتاتوركية: حوار مع محمد عثمانلي
محمد عثمانلي: باحث في جامعة باموكّله (Pamukkale) في تركيا، ومترجم في التاريخ العثماني.
حاوره: خالد بشير
***
- العزيز محمد، عندما نتحدث عن التوجهات السياسية في تركيا من منظور واقتراب تاريخي أكثر من كونه سياسيّ؟ كيف تميّز بين الاقترابين؟
نعم، أشكرك على هذه البداية، قد يصعب الفصل بينهما، ولكن الكُنه التاريخي يعيش روحاً في الجسد السياسي على أية حال، وهذه الروح ليست أمراً يُكشف بسهولة، وهذا متعلق بطبيعة علم التاريخ، ولعلّ التاريخ فيه جواب عن تفسير الحالة السياسية المعاصرة عند الحديث عن هذا الموضوع. درج الكلام عن يمين ويسار والمسافات المتفاوتة بينهما في البيئة التركيّة كغيرها. وبما أن الحديث عن توجهات سياسيّة، فهي مرتبطة نوعاً ما بالدولة الحديثة ونشوءها، يعني قد يُفصّل الأمر هنا ضمن بيئة القرن التاسع عشر رجوعاً. هنالك نجد انتماءات متفاوتة في بنية الدولة ولكن تحت معنىً آخر، هي النزعة العثمانية، تجد فيها التوجهات التي تبغي إعادة الأصول الراشدية الأولى، والأخرى التحديثية التغريبية، وكذلك المحدودة بالأرض والوطن والقوم، مع ذلك قد لا نجد برزخاً معيّناً بينها، كانت مشمولة بالعموم في تيار العثمانيين الجدد (وهو مسمى يعود ظهوره الأول إلى تلك الحقبة بالمناسبة)، وهو التيار الذي مثّلت جمعية "العثمانية الفتاة" الجانح الثقافي منه، ومن أبرز أسمائه: مصطفى فاضل، وضياء باشا، وعلي سعاوي، ونامق كمال، وإبراهيم شناسي.
- بالحديث عن تيار اليمين في تركيا.. هل نتحدث هنا عن تيار ديني بالضرورة؟ ما هو موقع الهوية والقوميّة من مسألة التشكيل والانتماء لهذا التيار؟
تركيا بالمفهوم العام، المتشكلة في إطار القرن التاسع عشر وحتى اليوم، فيها مراحل قد تبدو حاوية لحسّ تاريخانيّ من نوع ما، أي روحاً واحدةً - إن صحّ التعبير - واصلة بين الإمبراطورية السلطانية والجمهورية القومية، الدولة هي الدولة، والتغيرات الكونية هي الحكم الأول في تغيير هذه الدولة، اليمين قد يعبر عن حس أصولي ما، رجوع لجذور ما قبل القومية، أي التكوّن الأول للإنسان التركي المسلم، وقد يعبر عن الأصول العرقية المؤسطرة الغابرة، فاليمين هو خليط حقيقة بين القومية كتيار حداثي والدين كمكّون مجتمعي في البيئة العثمانية، هذا الدمج يبدو أنه انتقل عبر تغيرات تكيّفت في الدولة التركية قبل قرنين من الزمن سبقا تأسيس الدولة الجمهورية.
- ما هو مفهوم "اليسار" في السياق التركي إذاً؟ هل نتحدث هنا عن تيارات اشتراكية وشيوعيّة؟ أم إن هناك خصوصيّة لهذا التصنيف في خارطة التوجهات السياسية في تركيا؟
لا يشترط أن يحوي خصوصية ما، ولكنه كاليمين، معنىً واسع بالعموم، يطلق عادة على الكادر الذي أسس الجمهورية التركية، وبالتحديد الحزب الحاكم الأوحد، حزب الشعب الجمهوري، التيارات الاشتراكية والشيوعية نشأت متأخرة، ومع ذلك فإن أول حزب اشتراكي أُسّس تركياً هو "حزب الشعب الإشتراكي التركي" (1920)، كان له صلة ما بمصطفى كمال، ولكنّه أُغلق فيما بعد، ولأنه رأى دوماً أن لديه تفردٌ في الفكر أخرجه من إطار التقليد، التقليد بمعنى نقل تجربة بلشفية ما، إلى تكوين يسار مستند إلى خزّانه من العثمانية التغريبية، أي تكوين أتاتوركية شمولية كالعثمانية، حتى تنتج الاتجاهات المختلفة الأخرى فيما بعد. وتتمايز الكمالية عن الأتاتوركية، الأولى كتوجه حزبي والثانية كروح للدولة، أو كقناع الدولتية التركية الحديث الذي لم يتكيّف تحقيقه في إطار الدولة الإمبراطورية.
- يعني أن مصطفى كمال هو مؤسس اليسار؟
نظراً إلى ما سبق، نعم، ولكن ليس بمعزل عن البيئة التي نشأ فيها وليس مصطفى كمال الفرد، بل مصطفى الثقافة، هو يسار عثماني في مقتبل نشأته، يسار في العهد العثماني، ثم بدأت الأتاتوركية تتشكل مع التغيرات الكونية، وبعدها نمت الحزبية الكمالية، لم تبد الأصول الإسلامية، إن صح التعبير، في التيار الكمالي ظاهرة في البداية، ولكن يبدو اليوم بدأنا نلاحظتغيراً ما فيها، أو رجوع لشيء ما كان ضامراً، كون هذا التيار متنوع المنابت حقيقةً. بالمقابل نجد أن الشتلات المتطرفة في القومية التي كانت ضامرة لدى التيار المحافظ، أو قل الإسلامي، بدأت تنشئ اليوم نزعات عرقية، هذا سبّب اضطراباً في التوجهات المعاصرة، مما أدّى لتكون حزب يميني متطرف على الشاكلة التي تُلاحظ في أوروبا، يلتصق بطينة الوطن ويحتكر مفهوم الترابباختلاف عن ذاك المتواجد لدى اليسار الكمالي أو حتى المحافظ.
- كيف يمكن موضعة القومية إذاً؟
في الحقيقة قد يصحّ من نظرة سوسيولوجية أن الشيء الوحيد الذي يصعب تغيره في تركيا، بمفهومها العام مرة أخرى، هو القومية، القومية لا يمكن انفصالها عن التوجهات السياسية، صاحبت التوجهات في العهد العثماني بمجملها، وهي تصاحب توجهات الجمهورية التركية إلى اليوم. ولكن القومية الحزبية على جهة أخرى كانت تمثل يميناً صلباً هو أبرز تيارات اليمين، ومنها ينمو اليمين المتطرف وقد يُذهب للحديث عن تيار أنوريّ.
- لفتني مسمى "الأنوريّ".. كيف توصفّه؟
هكذا تيار هو طوراني في توصيفه العام، أي أنّه الشكل الأخير من القومية الراديكالية في أواخر العهد العثماني،وهو لا يُشكل حالياً حزباً بمفرده، إلا أنّه حنين أصولي من نوع عرقي، متواجد لدى يمين القومية الحزبي، بحثٌ عن بطولة ميّتة، لم تنجح في النمو، أي أنّها فشلت في الترقي عبر السلّم التطوريّ، كما أنّه يشكّل نوعاً من التباكي على مشروع جهادي قومي إسلامي جامع في أواسط آسيا، ومشروع مختلط في بنيته، جسد حيواني لم ينجح في التطور نتاج عدم تكيّفه، مَثّلَه سابقاً عصبة حزب الاتحاد والترقّي،أصابته علّة الموات بسبب كونه يحمل أعباء طورانية وإسلامية تحت محاولة تكوين أيديولوجية عثمانية في الوقت ذاته وبشكل فوضوي، لم يدم طويلاًولم يكن حاسماً لبناء دولة حديثة، ولكنه مع ذلك أسّس لها وكان "تمثالاً" للجمهورية الجديدة، و"التمثال" باللغة العثمانية هو الأمثولة النموذج.
- هل يمكن الحديث عن جذور وبدايات الكماليّة إذاً؟
تعود إلى فترة التحديث العثمانية التي لم تبدأ مع التنظيمات في مقتبل القرن التاسع عشر، بل قد تعود إلى ما قبل ذلك بقرن، التعرف النامي والضحل على التحديث الأوروبيّ في القرن الثامن عشر، التشاكل أو التلوّن أو حتى الصراع بين الصرعة الفرنجية alla franca والطبيعة التقليدية allaturka، كان هو ما شكّل التيارات التي أنتجت في المحصلة كادر الجمهورية. لم تنمو الحياة السياسية داخل الإمبراطورية لأسباب مختلفة، بل انتشرت في الخارج، هذا سبّب نمو الحياة الأدبية والثقافية في الإمبراطورية، اعتبرت هذه الحياة المدّ الأصعب أمام تحكّم الدولة ومركزتِها، هذه الحياة شكّلت الجيل الجديد من بناة الجمهورية، وهم أحفاد تيار العثمانيين الجدد، في المحصلة مصطفى (كمال) يبقى الابن الروحي لنامق (كمال) على سبيل المثال.
- التوجهات الإسلامية.. ما هو موقعها من تقسيم اليمين واليسار؟
تميل إلى اليمين، ولكن ممكن أن أطنب في القول بأن المعركة بين البرنيطة والطربوش نوع من الجدل البيزنطي، أو دونما تهرب، هو جدلٌ تركيٌّ في حقيقةِ أمره وريثُ البيزنطيةِ، كلاهما نشأ بعد حرب شعواء مع التيار المحافظ، وكلاهما كان نتيجة لانتصار التحديث، أو لنقل اليسار على المحافظة، ولكن من باب المغايرة يصبح الطربوش رمز المحافظة في الجمهورية، بينما تكون البرنيطة العداء مع الأصولية، هذا ما يبدو في المياه الضحلة، ولكن الدولة في الحقيقة منذ القرن الثامن عشر تسعى للتقليد التحديثي بدرجات، والبرنيطة وليدة الطربوش، كما كانت الأتاتوركية البنت التي ظهر أنّها عصت أمّها العثمانية. مصطفى كمال أسس لليسار الحديث الكمالي، ولكنّه لم يكن منفرداً به فقط، كان مجاهداً عثمانياً، وكان مُقلّداً لأفعال السلطان المتسلّط بل ومدافعاً عن أعماله، عارضها وحاربها حتى أطاعها وحنا رقبته لها، رُفعت الأيدي تدعو للسلطان "فليعشْ سلطاننا كلّ العمر، فليعش في دولتِهِ ألف دهر" ورُفعت الشعارات في الجمهورية لمصطفى كمال بالرقم اللارياضيّ (1881-∞19).
الحزب السياسي لا يمكن أن ينزع لباس آيديولوجية الدولتية الأتاتوركية عن جسده، مهما كان ينادي بشعار الإسلامية، أو المحافظة إن صح التعبير، ولكن الحديث عن بنية المجتمع شيء آخر بالطبع، وباستعاضة "الانثروبولوجيا السياسية" لدى جورج بالانديه [نقلاً عن خالد زيادة] فيمكن فهم استلال الطبائع التي تتبناها دولة الساسة والبيروقراطية مع عدم اشتراط تفشّيها لدى دولة المجتمع، ليست قوّة الإسلامية مثل الأتاتوركية والقومية، بنية الدولة في منشئها هي الأتاتوركية، والقومية كانت العامل المُشعل للدولة الحديثة، ولكن الإسلامية ترسبت في القاعدة، ضمور من نوع ما، ولكنها إن نمتعبر أحزاب سياسية من الصعوبة بمكان تخطيها لأساس الدولة الأتاتوركي.
لا بد من تحديد المصطلح، لو نقصد أن الإسلامية ممارسة الإمبراطورية سلطتها كدولة سلطانية فهي عضو مستنسخ مصغّر مبني في الأتاتوركية، ولا يُبالغ لو قيل أنّها هي التي ولّدت الأتاتوركية، ولو أنّها ستُعرف بكونها آيديولوجية ما بعد الدولة الإمبراطورية، فهي ضامرة أكثر في الكمالية الحزبية، وبارزة في التيارات اليمينية، بشكل أكبر القومية والمحافظة، وبالطبع هي السمة العامة للمجتمع تحت ظل التاريخ والمجتمع التركي الإسلامي.
- هل هناك نزاع بين الإنتماء الإسلامي والقوميّة في تركيا؟ أم هل هناك توليف ما يجمعها؟ أم أنهما تياران متصادمان، كما هو الحال الشائع في السياق العربي؟
كما تقدّم من غير الممكن الحديث عن إسلامية صافية، القومية تطغى وبشكل كبير على سائر المجالات، حالة المجتمع معقدة وتحتاج لفحص أكبر وهي متداخلة، ولكن بالحديث عن الدرجات الأعلى من الدولة، فمن الصعب أن تجد القومية (الثقافية أو الشعبوية) تعادي الإسلامية، أو أنها تنسلخ منها، الطورانية (القومية العرقية) لم تتكون في الجمهورية كحزب سياسي، لذلك فثمة تيارات القومية مُتدرجةٌ في تقبل الإسلامية، بل وفي فهمها وقولبتها، والتمفصل معها، وبدلاً من معاداتها تقوم بتشكيلها كما تريد، وعلى الناحية الأخرى فإن التيار المحافظ، والذي يُعتبر المرحِّب بالإسلامية أو الحاضن لها، هو الآخر لديه حدود، ورفضه للقومية مستعصٍ.
- في ضوء ما تقدّم، أين تضع ظهور الحزب الديمقراطي مع عدنان مندريس في الساحة السياسية التركيّة خلال الخمسينات؟ هل كان انقلاباً على حزب الشعب الجمهوري وبالتالي انقلاباً على "اليسار"؟
حتى ظهور هذا الحزب كان حزب الشعب الجمهوري هو من يحكم تركيا، ولم يختلف الحزب الديموقراطي في رؤيته عن سابقه، لو نظرنا إليه ضمن البيئة الواسعة للجمهورية، كون مؤسسي الحزب الديموقراطي من الأصل منتمين للشعب الجمهوري، وضمن ما استطاع تأمينه من إنجازات متعددة هي من أهداف تأسيس الجمهورية أساساً، يعني أنّه حزب يجول في الأتاتوركية بطبيعة الحال، نُقل جثمان أتاتورك في عهد مندريس إلى الموقع المشهور حالياً، هل هذا يعني أنّه لم يستخدم رموز الشرعية للجمهورية الجديدة في أدلوجة حزبه، بالتأكيد كان ذلك، في نهاية المطاف لم يكن مثل معارضة أُعدِمت،الحزب التقدمي الجمهوري (1924-1925)، والتي واجهها مصطفى كمال سابقاً، ولم يكن لها وجهة نظر توافق على مفاهيم الجمهورية الأتاتوركية بتاتاً، وهكذا فيُمكن تقييم منجز مندريس وصحبه على أنّه منضوٍ تحت الجمهورية الجديدة بالعموم، ولا ننس أن مندريس من جيل مختلف تماماً عن مؤسسي الحزب الذي بنى الدولة الجديدة، عدنان مندريس تكوّن بين أضلع الجمهورية وتضلّع حليبها.
- هل ترى بأن اليسار الكمالي اليوم هو ذاهب إلى أفول وانحسار؟
الكمالية، المسمّاة اليوم بالـ"الاجتماعية الديموقراطية"، بناء على ما سبق نشأت حديثاً، يعني أنّها لا ترتبط بمصطفى كمال، بل هي تالية في النشوء ثم التبلور إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وانقلاب 27 مايو (1960)، بالتالي فهي قابلة للتغيّر، وهي بالفعل تشكلت وتبلورت عبر مراحل، يعني أنّها نظرياً قابلة للتفتت، ولكن ليس الحال هكذا مع الأتاتوركية، والمُفارق أن محبي مصطفى كمال ومبغضيه في الجمهورية متفقين على أنّه هو الأحد، المؤسس (بان الجمهورية) أو مغيّر النظام القديم (هادم الخلافة)، وفي الحقيقة إن دولة الجمهورية قامت على عوامل أكثر من قيامها برجل/رجال، يعني أننا نرى مرة أخرى تأريخ وضعاني متأخر، يرفع السياسيّ لعتبةٍ قدسيةٍ، يرتسم بين جنبات هذين الطرفين.
Related Posts
كاتب من الأردن، حاصل على الماجستير في العلوم السياسية