أسدل أردوغان الستار على ماضي حزبه الإسلامي الصرف، وتبنى سياسات توسطّية في الداخل والخارج، بدلاً من السياسات الصدامية التي وقع في فخها أربكان. فبين 'الأتاتوركية العلمانية'" و'"الأربكانية الإسلامية'"، اختار أردوغان '"الديمقراطية المحافظة'" أو '"العلمانية المؤمنة'""
السياسة العثمانية الجديدة بين قمتين: قمة اسطنبول وقمة كوالالمبور
أعادت قمة كوالالمبور الإسلامية المصغرة المنعقدة في كانون الأول من العام 2019 إلى الأذهان قمة الدول الثماني الإسلامية النامية التي عقدت في إسطنبول في حزيران العام 1997. الجدير بالملاحظة هو الدور الريادي لتركيا في القمتين وغياب المملكة العربية السعودية عن كلتيهما، فيما بدا أنه تنافساً أو تسابقاً على قيادة العالم الإسلامي بين مشروعين: مشروع تقليدي تقوده السعودية من خلال منظمة التعاون الإسلامي التي تأسست في العام 1969، ومشروع نهضوي تحاول تركيا إحياءه بين الفينة والأخرى، وذلك من بوابة التعاون الاقتصادي بين مجموعة من الدول الإسلامية الباحثة عن تكتل إسلامي وازن اقتصادياً وسياسياً في المنطقة والعالم. بيد أن المشروع الإسلامي التركي قد شهد تحوّلات وتبدّلات جذريّة بين رؤية رئيس وزراء تركيا الراحل نجم الدين أربكان صاحب مبادرة 1997، ورؤية الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان عرّاب مبادرة العام 2019.
روّج نجم الدين أربكان -الذي يعتبر مؤسس الإسلام السياسي التركي- في أواخر التسعينات إلى تصوّر إسلامي جديد وفق منظومة جيو-دينية وجيو-إستراتيجية تعيد الاهتمام التركي بمناطق الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان، بعد سياسة "الإهمال الحميد" للعالم الإسلامي والالتصاق بالغرب التي انتهجتها تركيا الكمالية على امتداد عقود طوال. حاول أربكان العمل على زيادة ثقل تركيا في الدائرة الإسلامية، وتطوير العلاقات الثنائية اقتصادياً وتجارياً مع الدول الإسلامية عموماً، ودول الجوار خصوصاً. وقد رفع أربكان أيضاً سقف طموحاته للحد الأقصى بإطلاق شعارات تنادي بإقامة حلف دفاعي إسلامي على غرار الناتو، وقيام أمم متحدة إسلامية، وتأسيس منظمة تعاون ثقافي إسلامية بديلة عن اليونيسكو، وبنك مركزي إسلامي، والعمل على إصدار عملة إسلامية موحدة، كبديل واضح وصريح عن الغرب ومؤسساته، وكاتجاه معاكس لرؤية تركيا الكمالية التي سعت جاهدة منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى لتأسيس دولة تركية حديثة؛ قومية الهوية، أوروبية التوجه، وعلمانية الطابع.
ارتكزت رؤية أربكان بوضوح تام على الخيار الإسلامي، وقد رأى أن من شأن هذا الخيار تسوية الصراع العرقي بين القومية التركية والقومية الكردية في الداخل باعتبارهم أخوة مسلمين، إلى جانب فتح الطريق لعلاقات مميزة مع المحيط الإسلامي في الخارج. وبمبادرة منه ظهرت قوة الثماني الإسلامية النامية في مقابل الدول الصناعية الثماني. وتألفت الدول الثماني الإسلامية النامية من تركيا، وإيران، وباكستان، وإندونيسيا، وماليزيا، وبنغلادش، ونيجيريا، ومصر. واعتبر أربكان أن من حق تركيا أن تقود هذا الهيكل الإسلامي الجديد العابر للحدود، والذي يُراد منه كسر الهيمنة الغربية على النظام الدولي الذي يعرقل تقدم البلدان الإسلامية. عجز أربكان عن تحقيق رؤيته لاعتبارات داخلية وخارجية. فعلى المستوى الداخلي، كانت وجهة النظر العسكرية المسيطرة على جذور الحياة السياسية في تركيا، ترى بأن كلّ من الهويّتين الإسلامية والكردية تشكّل تحديات جوهرية للجمهورية التركية العلمانية. أما على المستوى الخارجي، فقد كان مشروع أربكان في السياسة الخارجية مخالفاً لطبيعة العلاقات والتحالفات الدولية التي كرستها معاهدة وستفاليا، والتي تقضي بأن المصالح والقدرات التي تمتلكها الدول في تحقيق مصالحها هي الأساس في تشكيل التحالفات وإقامة العلاقات الدولية، وليست المشتركات الدينية أو العقائدية الصريحة. لذا كان من السهل الإطاحة بأربكان ومشروعه فيما عُرف "بالانقلاب الهادئ" وبغطاء دولي في العام 1997.
في صيف العام 2001، برز حزب العدالة والتنمية على الساحة السياسية التركية بقيادة رجب طيب أردوغان الذي خرج من عباءة حزب الفضيلة وريث حزب الرفاه، ونجح الحزب في الوصول إلى السلطة عام 2002 والبقاء في سدة الحكم حتى يومنا هذا. أسدل أردوغان الستار على ماضي حزبه الإسلامي الصرف، وتبنى سياسات توسطّية في الداخل والخارج، بدلاً من السياسات الصدامية التي وقع في فخها أربكان. فبين "الأتاتوركية العلمانية" و"الأربكانية الإسلامية"، اختار أردوغان "الديمقراطية المحافظة" أو "العلمانية المؤمنة" كمعبر آمن للتصالح بين موالاة الغرب والسوق من الجهة، والالتفات إلى العالم الإسلامي من زاوية إيجابية من جهة أخرى. وقد مكّنه من ذلك، تنامي برجوازية مسلمة براغماتية وداعمة للرأسمالية في مدن تركية مختلفة، أشبه ما تكون "بكالفنية تركية". انطلاقاً من ذلك، عمل "ثعلب الأناضول" على إعادة صياغة المصلحة القومية والوظيفة الجيوبوليتيكية لتركيا، بما يمكن أن يتيح له إطلاق قاطرة الإستراتيجية العثمانية الجديدة، التي تولي اهتماماً خاصاً للانخراط في الشرق الأوسط.
تبدّت معطيات هذه الإستراتيجية في المُؤلّف المعروف لوزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو "العمق الإستراتيجي". اعتبر أوغلو أن السياسة الخارجية التركية كانت تفتقر إلى التوازن، بسبب تركيزها الفائق على العلاقات مع أوروبا الغربية والولايات المتحدة إلى حد إهمال مصالح تركيا مع الدول الأخرى. على الرغم من ذلك، فقد بدا جليّاً أن أوغلو حاول الابتعاد عن ديماغوجية الهياكل الإسلامية التي حاول أربكان أن يرسمها فيما سبق. وعوضاً عن فكرة استبدال العلاقة مع الغرب، أراد قادة حزب العدالة والتنمية إستكمال العلاقة معه، ولكن وفقاً لمقتضيات مستحدثة تعزز مكانة تركيا وتقوي دورها باعتبارها هوية جامعة وبنية دينامية ذات عمق إستراتيجي واسع وراسخ، تستطيع معها أن تستعيد مكانتها المرموقة على الساحة الدولية، وتتجاوز فكرة الدولة الجسر، لتكون تركيا مركزاً إقليمياً لها روابط مميزة مع الشرق والغرب. وقد حدد أحمد داود أوغلو مفهوم الدولة المركز وفقاً لمعطيات أربع: العمق الجغرافي، والاستمرارية التاريخية، والتأثير الثقافي المتبادل، والترابط الاقتصادي المتبادل.
في إطار هذه الإستراتيجية الجديدة، تعيّن على تركيا أن تمارس دور "القوة الناعمة" -سياسياً واقتصادياً وثقافياً- في المناطق التي تعتبر تركيا أن لها مصالح قومية وإستراتيجية وذلك حتى العام 2011، أي حتى نقطة انطلاق ثورات الربيع العربي. بدا حينها أن السياسة الخارجية التركية لحزب العدالة والتنمية تندفع بقفزات نوعية تجاه العالم العربي بحس إرث القوة العظمى العثماني، معلنة دعمها وتأييدها لهذه الثورات في كل من مصر وليبيا وتونس وسوريا. حاولت تركيا خلال هذه الفترة، إعادة إحياء فكرة تقديم نفسها كنموذج يحتذى، أي كمثال لدولة إسلامية حديثة ومعتدلة وقادرة على العمل والحركة بفعالية. ومن ثم عملت على إظهار رغبة لقيادة العالم الإسلامي باعتبارها دولة محورية وقوة اقتصادية رأسمالية، استطاعت أن تجمع بين هويتها الإسلامية وتبني مفاهيم الدولة العلمانية والنظام السياسي الديمقراطي في نفس الوقت. ومما زاد من حافزية أردوغان للقيام بهذا الدور، الحضور المكثف لحركات الإخوان المسلمين في المشهد السياسي بعد الربيع العربي، وتحديداً في كل من مصر وتونس وليبيا. وقد أخذت القوة الناعمة تتحول تدريجياً إلى "قوة سائلة"، تدعم بالرؤى والمواقف حلفائها الجدد أحياناً، وبالمال والسلاح أحياناً أخرى، وخصوصاً في الدول المحاذية لها وعلى رأسها سوريا، وهي تسعى الآن لكي يكون لها دور عسكري مباشر في ليبيا أيضاً في المدى المنظور.
لم تجر رياح السياسة العربية بعد الربيع العربي في الاتجاه الذي اشتهته تركيا. فقد تمكن الجيش المصري من الإطاحة بحكم الاخوان المسلمين في مصر، وبدت حركة النهضة التونسية بقيادة الغنوشي غير متحمسة لاستيراد أي نموذج حكم من الخارج، وتمكنت الدولة السورية من استعادة السيطرة على معظم الأراضي السورية. كما أثار الدور التركي حفيظة الكثير من الدول العربية والإسلامية فبدت وكأنها غير متصالحة مع محيطها الإسلامي. ولا شك في أن الوضع المتأزم في إدلب حالياً، هو أحد أبرز تمظهرات التوتر التركي مع هذا المحيط. فتركيا لا زالت تحاول بكل ثقلها استغلال حالة التأزم السياسي في العالم العربي لتعظيم مصالحها، وكسر معادلات التوازن الإقليمي، وتحقيق قدر أكبر من التمدد والحضور في الشأن العربي، وفي صلب اعتباراتها زيادة وزنها الإستراتيجي عبر الاستفادة من مجمل العوامل الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.
لقد أتاحت مساحة الفراغ الاستراتيجي والفجوات العميقة في عملية بلورة نظام عالمي جديد فرصة سانحة لتركيا العثمانية الجديدة للتدخل الواسع غير المنضبط مع إيقاع السياسات الإقليمية والدولية، مما قلب معادلة تصفير المشاكل مع المحيط إلى تصفير التفاهمات معه، بفعل الطموحات الجامحة في السيطرة على الأزمات في منطقة الشرق الأوسط ومحاولة توظيفها في إبعاد التهديدات الأمنية عن أراضيها من جهة، وتوسيع مجال حركتها ونفوذها الإقليمي من جهة أخرى، مما يسمح لها بالجلوس على طاولة الكبار كقوة استقرار والتحدث مع القوى الدولية الفاعلة من هذا الموقع. لذا، فإن المعركة السياسة والعسكرية الدائرة رحاها في إدلب، لا تقتصر تداعياتها على الوضع السوري فحسب، بل سيطال مستقبل الدور التركي في الإقليم ككل، ويعيد ترسيم حدود الوظيفة الجيوبوليتيكية لتركيا في المنطقة التي لطالما خضعت لتجاذبات قوى البر التي تقودها روسيا، وقوى البحر التي تقودها الولايات المتحدة.
في هذا السياق الطويل والمركب والسيناريوهات المعقدة قبل القمتين وبعدهما، كان اقتراح عقد قمة كوالالمبور الإسلامية المصغرة في ديسمبر 2019، والتي دعا رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد -من ذوي الميول الإسلامية القريبة من حركة الإخوان المسلمين- لأن تشارك فيها خمسة دول هي: ماليزيا، وتركيا، وقطر، وباكستان، وإندونيسيا، وذلك بهدف "تسليط الضوء على مشاكل العالم الإسلامي وإيجاد حلول لها". حضرت إيران القمة، وتغيبت باكستان وإندونيسيا عنها بعد أن دفعت السعودية بكل ثقلها لإفشالها وإبطال مفاعيل انعقادها، معتبرة أنها محاولة لإيجاد بديل عن منظمة التعاون الإسلامي، ليتكشف من جديد التنازع التركي – السعودي على قيادة العالم الإسلامي.
من غير المتوقع أن يكون للقمة نتائج كبيرة، أو خطوات عملية باتجاه إقامة حلف إسلامي جديد، لكن يبقى من المهم لحاظ تطور السياسة الخارجية التركية المتدحرجة تجاه العالم الإسلامي. فتركيا الكمالية العلمانية أدارت ظهرها تماماً للعالم الإسلامي متّبعة نهجاً غربياً خالصاً. ثم حاولت تركيا أربكان الإسلامية، قلب المعادلة رأساً على عقب بالتوجه إلى العالم الإسلامي في سبيل مواجهة الهيمنة الغربية على النظام الدولي. بينما يسعى أردوغان للانفتاح على العالم الإسلامي من أجل قيادته بغية تعزيز مكانة تركيا الدولية من جهة، وربما الحسم بشكل قاطع في مسألة أحقية من يمثل الإسلام كقوة في النظام العالمي الجديد من جهة ثانية. وقد أرسل أردوغان إشارات واضحة ينتقد فيها تهميش العالم الإسلامي وإقصائه عن التمثيل في النظام الدولي الحالي، داعياً في أكثر من مناسبة إلى تمثيل عادل في هذا النظام. ولكن، يبقى هذا الدور الذي يطمح إليه أردوغان في تركيا الجديدة، مرهون بإقامة علاقات صحية مع دول العالم الإسلامي، والبحث عن تحالفات أشد فاعلية، وسياسات أكثر واقعية، تساهم في إعادة الاستقرار لدول الشرق الأوسط. أما السياسات التوسعية والمصلحية الصرفة قد توقف مسيرة تركيا عن كونها قصة نجاح سياسي واقتصادي لتصبح عامل لا استقرار في المنطقة والعالم.
"Related Posts
كاتب فلسطيني