بشقّيها الأكاديمي والطبي، تعتبر الجامعة الأميركية في بيروت نموذجاً 'للتقدّم'" الأميركي في مختلف المجالات، لا في بيروت فحسب، بل على مستوى الشرق الأوسط. بدأ مشروع الجامعة الأميركية في بيروت عام 1863 حين وقّع مجلس ولاية نيويورك الأميركية قراراً أعلن بموجبه، بشكل ربما كان الأوّل والأوضح، أنّ للولايات الأميركية سياسة خارجية تتعلّق بمنطقتنا"
الجامعة الأميركية في بيروت: السفارة العميقة
بشقّيها الأكاديمي والطبي، تعتبر الجامعة الأميركية في بيروت نموذجاً "للتقدّم" الأميركي في مختلف المجالات، لا في بيروت فحسب، بل على مستوى الشرق الأوسط. بدأ مشروع الجامعة الأميركية في بيروت عام 1863 حين وقّع مجلس ولاية نيويورك الأميركية قراراً أعلن بموجبه، بشكل ربما كان الأوّل والأوضح، أنّ للولايات الأميركية سياسة خارجية تتعلّق بمنطقتنا، وأنّها تطالب بحصّة من الجبنة التي يتقاسمها الأوروبيون في الشرق الأوسط. قضى القرار بدعم مشروعَيْ تأسيس "الكلية الإنجيلية السورية في بيروت" و"كلية روبرت" في البوسفور التركية ، بمباركة من الإرادة العليّة في الدولة العثمانية التي كانت تحكم سوريا (بيروت ضمناً) حينها. كان الجسد المريض للامبراطورية الشرقية الكبرى مطمعاً مغرياً للّاعبين الدوليين، حيث كان ينافسُ الأميركيَّ عليه إمبراطوريتان قديمتا العهد في نخر عظامه: فرنسا وإنكلترا.
تجربة الجامعة اليسوعية
وصل الآباء اليسوعيون الكاثوليك إلى شواطئ لبنان في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وبدؤوا العمل الدعوي والتعليمي عبر تأسيس صفّ في المنطقة المسيحية من الجبل فمدرسة تحوّلت بعد أقلّ من نصف قرن، بالتحديد في 1875، إلى جامعة معترف بها رسميّاً. في الحقيقة، فإنّ هذه الجامعة هي التي ستعيد تعريف لبنان وهويّته في نصف القرن الأول من عمرها، فقد استفرد خريجوها بالعمل السياسي في البلد لأكثر من ثلاثين سنة منهم ميشال شيحا، كميل شمعون، شارل حلو، انطون سعادة.. في الوقت الذي درس آخرون مثل بشارة الخوري واميل اده في فرنسا نفسها.
لعبت الجامعة دوراً ضخماً في ترسيخ مسيحية الجبل وبناء النخب القادرة على حمل القيم التي تتناغم مع المشروع السياسي والحضاري الفرنسي-الكاثوليكي في الشرق. يمكن بسهولة القول أنّ للجامعة الفضل في النقلة النوعية التي عرفها المسيحيون سياسيّاً وتمكين المارونية السياسية في الجبل ومحيطه حينها. عارض نخبة خريجيها الاستقلال عن فرنسا عام 1943، وكانوا بغالبيتهم العظمى مسيحيين ولكن أيضاً مطعّمين بنخب سنية وشيعية من الطبقات الثرية من ورثة الأرستقراطيات العثمانية، أمثال بعض عائلات مدينتي النبطية وصور، إذ مثلوا رعايا المارونية السياسية في الطوائف الأخرى.
الإنكليز والعمل الأكاديمي
اهتمّ البريطانيون كما الفرنسيون بإنتاج النخب، ولكنّهم ركّزوا على الطابع الأمني في العمل السياسي واعتمدوا على التعليم في بريطانيا نفسها. فبرغم التطوّر الكبير للجامعات البريطانية فإنّها لم تفتتح أي فرع أو جامعة في الشرق -ما عدا في الهند لطبيعة وأهمية الهند عند بريطانيا الاستعمارية- وكان يتمّ اختيار طلّاب من عائلات وخلفيات مدروسة وإرسالها إلى بريطانيا لتعود للعمل السياسي والاجتماعي-الثقافي في بلادها.
الأميركيين وبداية التوجه شرقاُ
في 1860 تم انتخاب ابرهام لينكولن لرئاسة الولايات المتحدة في ظرف صعب لم تقف فيه الحروب الداخلية بين سكان الولايات. الرئيس المعروف بعقليته "التبشيرية" بدأ بالاستثمار السياسي خارج القارة. وصحيح أنّ افتتاح جامعتين في الشرق الأوسط بقرار واحد له دلالات كبرى، لكنّ القطاف لم يأتِ إلا بعد دمار فرنسا في الحرب العالمية وتراجع دورها مع إنكلترا وأوروبا بشكل عام لصالح الوافد الأمريكي الجديد إلى منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا. خسرَت فرنسا نفوذها السياسي في لبنان وتراجع بالتالي الدور السياسي للجامعة اليسوعية لينتقل الى الجامعة الأميركية في بيروت -إذ تغيّر اسم الجامعة بعد فك الارتباط مع الدولة التي كانت أنشاتها الإرساليات البروتستانتية الانجيلية عام 1864. كما أُلحقت الجامعة بمركز طبي جامعي تطوّر بموازاتها وأصبح جزءاً لا يتجزأ من هويتها ودورها المحلي والإقليمي.
الجانب المظلم
سريعاً كان الإستثمار، ففي عام 1945 عقد مؤتمر سان فرنسيسكو لوضع ميثاق الأمم المتحدة بمشاركة ممثلي 50 دولة. 19 من المشاركين كانوا خريجي الجامعة الأميركية في بيروت، مثّلوا معظم الوفد العربي إلى المؤتمر، من لبنان إلى سوريا والعراق والأردن والسعودية. كان شارل مالك باكورة القطاف المحلّي، حيث تولّى مهمة تعريف لبنان الجديد إلى الدول المنتصرة في الحرب العالمية، وصياغة هوية هذا البلد بشكل لا زال مؤثراً إلى يومنا هذا. مالك نفسه جرى تعيينه أول سفير لبناني في الولايات المتحدة. فارس الخوري كذلك تولّى تمثيل سوريا ضمن وفد من 6 خريجين من الجامعة نفسها منهم فريد زين الدين، نعيم الأنطاكي، ناظم القدسي وغيرهم ممن تولى مهام وزارية وسياسية قيادية في سوريا. فيما بلغ عدد ممثلي العراق في المؤتمر 8 شخصيات من وزراء وحاكم مصرف مركزي وسياسيين مؤثرين كلّهم ايضاً خريجو الAUB، وكان ممثلا السعودية وإيران من خريجي الجامعة كذلك.
علاقة إيران بالجامعة كانت مميزة. في حكومة شاهبور بختيار، وهي حكومة الإنقاذ الأخيرة التي عقد عليها شاه ايران ومن خلفه السي آي ايه ووزارة الخارجية الأميركية آمالهم الأخيرة بأن تقوم بإخماد الثورة الإسلامية في 1978، وسعى كارتر من خلالها أن ينقذ قاعدته الكبرى في الشرق الأوسط من أن تفلت إلى المحور الآخر، كان ستّة من أعضائها هم من خرّيجي الجامعة الاميركية في بيروت!
الجانب المظلم الآخر
تبعاً لدورها ومقدراتها، تحوّلت الAUB إلى مركز تكثّف فيه النقاش الفكري والثقافي. يمكن ببساطة القول بأنّ الجامعة كان لها فرادة أن تضمّ النخب العربية التي تعرفّت -وإن بشكل هوليودي- على النتاج الفكري والحضاري الغربي وقدّمته إلى مجتمعاتها بناءً على موقفها منه. تخرّج من الجامعة نفسها وديع حداد وجورج حبش وصالح الشبل، أعمدة الكفاح الفلسطيني المسلّح وقادة المواجهة العالمية مع عصارة الحضارة الغربية وسفيرتها الأصلية إلى الشرق، إسرائيل. وفيها درس ودرّس قسطنطين زريق وإدوارد سعيد وغيرهم.
نعم لا يخلو الأمر، ولكنّ الساذج، إلى جانب المغرض، هو وحده من لا يضع هذه النقاط ضمن الخط العام لمسار الجامعة في بلادنا. بالنسبة للمشهد الكبير، فإنّ مجرّد كون قيادات التنظيمات المعادية للسياسات الأميركية في المنطقة هم من خريجي الجامعة يعني وجود مساحة مشتركة ولغة مشتركة يمكن الركون إليها في أي عمل سياسي يستهدف هؤلاء سواء كان مفاوضة أم مواجهة، ولا زالت إحدى أبرز مشاكل السياسة الخارجية للولايات المتحدة اليوم مع الجماعات التي لا زالت في صلب المواجهة معها هي عدم وجود أي أرضية للتفاهم وأي لغة مشتركة للحوار. يندر أن تجد مسؤولاً عسكرياً أو أمنياً أو حتي سياسياً كبيراً في حزب الله اللبناني مثلاً من خريجي الجامعة.
وستجد في صحيفة مرموقة كالنهار أو السفير مثلاً مدائح طويلة ومعلّقات "بُحترية" في الجامعة ورؤسائها الرساليين ورسالتها لـ"حياة أفضل لهم". أمّا من هم المقصودون بضمير الجمع للغائب فسؤال آخر. الساذج وحده لا يبحث في سياسات التسويق الخاصة بالجامعة، ومدى إنفاقها على الإعلان والترويج لرساليتها وقيمها. وهو الساذج نفسه الذي يعتقد أنّ إنفاق الجامعة على التسويق لنفسها يبدأ من دفع المال للجرائد والمجلات والشخصيات على الطريقة العربية السخيفة، فهذه "النخب" نبت لحم أكتافها من خير الجامعة وصارت ما هي عليه بسبب جواز سفرها الأكاديمي والمهني المرتبط بدراستها في ربوع الAUB، وهي ليست بحاجة لرشاوى ومظاريف معتّمة تصلها عبر البريد السري ليلاً كما يحبّ أن يظهّر بعض الإعلام.
الجامعة مركز أمني - عسكري؟
في تضخيم الدور الأمني التقليدي للجامعة مبالغة. للجامعة دور أمني استراتيجي، يتعلّق بصناعة النخب وبناء التشكيلات والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي ستشكّل كلّ هوية المنطقة السياسية والثقافية والتي ستكون أنفع للسياسة الخارجية للولايات المتحدة من أي جاسوس هنا أو عميل هناك. لكنّ هذا لا يلغي أنّ الجامعة بما تحويه وتمتاز به تشكّل عاملاً جاذباً لأجهزة الاستخبارات والأمن التي لن تفوّت على نفسها فرصة العمل في نطاق فيه من كثافة المعلومات والشخصيات والعلاقات ما يجعله جنّة حقيقية لخفافيش الليل إلى أي جهة انتموا.
فقد كان لاختطاف بعض الشخصيات الأكاديمية والمهنية من الجامعة دوافع متعلّقة بعمل هذه الشخصيات بشكل سرّي ضمن أدوار أمنية متعلقة بأجهزة استخبارات عالمية. كما شكّلت الجامعة، بجغرافيتها كجمهورية غربية مستقلة تتوسّط بيروت، ورقة من المؤكّد أنّ الأميركي والإسرائيلي فكرا باستخدامها في عمليات معينة على أساس أنها أرض صديقة.
بسّام أبو شريف، مستشار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وهو للمفارقة من خريجي الجامعة الاميركية أيضاً، كان مسؤولاً أمنياً في فتح خلال 1982. ينقل ابو شريف أنّ رجلاً أتاه بعد إصرار شديد على مقابلته شخصياً، قبيل اجتياح حزيران بأشهر، ليخبره أنّه وأثناء عمله اليومي في مكتب بشير الجميل في الحمرا كمقدّم قهوة وعامل نظافة وجد خرائط على مكتبه عليها رسومات وكتابات تشير إلى خطوط تقدّم القوات الإسرائيلية إلى بيروت. طلب منه أبو شريف استنساخها، وكانت الخلاصة أنّ أحد محاور تقدّم الجيش الإسرائيلي المقترح، والذي كان ينسّق مع بشير، كان بحراً عبر إنزال على شواطئ الجامعة.
بعد الإجتياح، بدأت سلسلة عمليات خطف تبنّتها جهات عديدة معظمها أسماء وهمية، توجّهت بشكل أساس نحو الكادر المرتبط بالجامعة. فبعد تفجير السفارة أثناء اجتماع أمني لمسؤولين في السي آي إيه، مما يوضح أنّ للجهة المنفّذة خلفية استخبارية معقّدة، حصلت عمليات خطف مرتبطة ببعضها لرئيس الوكالة في الشرق الأوسط "باكلي" ولرئيس الجامعة "دودج" ولأطباء ومدرّسين في الجامعة، كما اغتيل رئيس آخر. دخلت الجامعة حينها في حالة من الصدمة، إذ كانت تفترض أنّها ستبقى في منأى عن الحروب القذرة التي لم تكن تدخلها بشكل مباشر أبداً حفاظاً على صفتها كصرح أكاديمي حضاري، وبقي رؤساء الجامعة بعدها يقيمون في قبرص لأكثر من 12 سنة.
الجامعة في الوسخ اللبناني: الأمن مقابل السياسة
الفشل الأمني في حماية الجامعة يتحمّل مسؤوليته بشكل أساس الفريق السياسي الذي كان موكلاً بحماية الرعايا والمصالح الأميركية في لبنان مقابل تأمين الظهر السياسي والأمني: جهاز أمن الحزب التقدمي الإشتراكي.
فعدا عن كون الأرض التي قامت عليها الجامعة الأميركية تعود مساحة كبيرة منها للوقف الدرزي، تنقل هلا جابر في كتابها عن تاريخ حزب الله -واستناداً إلى مصدر أمني لم تكشف عنه- أنّ عماد مغنية نجح وسط الثمانينات في اختطاف أحد أطباء الجامعة الأميركية، والذي كان له دور أمني في لبنان. في نفس اليوم تواصل معه أكرم شهيّب، الذي كان مسؤولاً عن حماية الأميركيين في لبنان، والتقى به في فندق ال"سمرلاند" حيث أكّد له مغنية أن المخطوف سيخرج مساءاً وصدّقه شهيّب وطمأن الأميركيين. مساء ذلك اليوم تم إخراج المخطوف من البلاد ولم يفرج عنه أبداً. وعلى هامش موضوع المقال، لعلّ حقد شهيّب العميق على الحزب حتى اليوم ناتج عن عمق خيبة أمله في تلك العشيّة.
وبعد إنعاش أجهزة الدولة الأمنية عقب نهاية المواجهات العسكرية الداخلية وتوقيع اتفاق الطائف، اصبحت مهمة حماية الجامعة تقع على عاتق أجهزة الدولة المدعّمة بضباط أمن أميركيين تؤمّنهم السفارة، بحسب مصادر في الجامعة.
السفّارة في العمارة
استمرّت الجامعة كأيقونة أكاديمية في لبنان، يطمع فيها الطلاب للدراسة والاساتذة للتدريس والشباب للعمل. نفضت غبار الحرب وتولّت على عاتقها مسؤولية إنتاج جيل لبنان الجديد -جيل ما بعد الحرب. يمكن اختصار خصائص الجيل النموذجي عند الأميركيين بشباب يربط نجاحه بنجاح العلاقة مع الولايات المتحدة ووكلائها. جيلٌ لا يسعى لتحقيق أية استقلالية أو نموذج استقلالي وطني أو عروبي أو اسلامي أو شرقي أو مهما كان لونه وخلفيته، دونما تربيط عميق مع الأميركي وسياساته ومشاريعه في البلد والمنطقة.
في الحقيقة، لقد لعبت السفارة الأميركية في عوكر دوراً بسيطاً في رعاية مصالح أميركا في لبنان (وإن شئنا قلنا في أمركة لبنان) أمام دور الجامعة. إنّ العمود الأساس الذي يقوم عليه حضور أميركا في لبنان والعالم العربي اليوم هو ليس السفارة، وإنّما الجامعة الأميركية في بيروت. تخرّج الجامعة سنوياً ما يقارب 6000 طالب لبناني اليوم، ويمكن التقدير بانّ عدد خريجي الجامعة منذ نهاية الحرب إلى اليوم يفوق ال50 ألفاً. الكثير من هؤلاء ممن انبهر بالنموذج الأميركي في الحضارة والإدارة وجد نفسه سفيراً لهذه الثقافة أينما حلّ، من أقصى البقاع والكورة إلى بنت جبيل والناقورة.
لقد صنعت الجامعة جيشاً حقيقياً من المعجبين والمتفهّمين لدورها وطرحها، الكثير من هؤلاء مثلاً يميلون بشكل أكبر إلى القبول بنزول رئيس الجامعة إلى المظاهرات الأخيرة ليشارك المحتجين حراكهم ويثني على مطالبهم، وهم إن اعترض بعضهم على نزوله فمن باب الحرص إذ أنّه قد يضرّ بصورة الجامعة ويجعلها عرضة لتجاذبات السياسة اللبنانية وأمواجها. وإذا كان الفاخوري تم تهريبه بمروحية هبطت في السفارة، فإنّ الجامعة أنشأت جيلاً شاباً لا يجرؤ على أن يرمي ولو حجراً على طائرة أميركية خرقت الأجواء اللبنانية ومسحت الأرض بكرامة شعب عانى وقاسى ظلم العملاء وعذابات سجونهم باللحم الحيّ وسنين البعد عن الأهل والخوف على الأحبة.
فضلو خوري: الشهرة بالمقلوب
ضجّ اسم فضلو خوري عقب مشاركته في الحراك الأخير. هو نزل إلى الساحة كرئيس للجامعة ووجّه خطاباً إلى الموجودين حوله ممن كانوا بمعظمهم طلّاب جامعته وأعضاء نواديها الثقافية. ضجّ أيضاً هتاف الفتاة المناضلة في زملائها الطلاب وهم يجوبون شوارع الحمرا "يلا ارحل نصرالله". هؤلاء لا يمزحون، وهم ليسوا حمقى، كما اعتقد ولا يزال جلّ جمهور المقاومة في لبنان. هم تربّوا على أنّ لبنان حدوده من شارع بلسّ إلى المنارة، مع بعض الملحقات التي لم تتّسع لها المنطقة لضيقها، يسافرون إليها عند الحاجة في ضواحي بيروت الشرقية والجبل والمتن.
أمّا عن المواطَنة، وهي من القيم الأساسية التي تُربّي عليها الجامعة أجيالها، فهي تمرّ بنيويورك وتعرّج على وادي السيليكون وتعود إلينا على متن البوارج التنويرية المنتشرة في المحيطات على طول الطريق. فلا يعود هنا لا نصرالله ولا عبدالله ولا حتى جوزف والياس لبنانيين، وإن كان سابع جدّ لهم لبنانياً. هؤلاء كلّهم عليهم أن "يرحلوا الآن" فلبنان ليس لهم، وفتيات النادي العلماني في الجامعة طفح كيلهنّ منهم. هكذا تعلّموا في الجامعة عن احترام الآخر. وعلى ذكر الآخر، يعود ضمير الغائب في شعار الجامعة المنقوش على بوّابتها من أيام الأب المؤسس بلسّ "لتكون حياة أفضل لهم" إلى الواجهة: من هم؟ ومن نحن؟
الإدارة المتعثّرة أم الزمن العاطل؟
المؤسسة الأكاديمية النموذجية اليوم هي أوّل المؤسسات التي فضحتها الأزمة المالية. فبعد التقنين في العمل ودفع المعاشات وحسم جميع المنافع والزيادات وتعليق العمل بالساعات الإضافية منذ نصف سنة وإيقاف تجديد العقود (طرد بلغة قانونية) لمعظم الذين دخلوا خلال السنيتن الماضيتين ولم يمضوا عقد عمل دائم، اليوم 1500 موظّف من الدرجات الدنيا مقترح للصّرف. هو صرفٌ تعسّفي وإن طابق شروط قانون العمل المتخلّف، فالإدارة الإنسانية ترمي موظفين أفنوا سنوات عمرهم في العمل وتقول لهم في أفضل الأحوال "هذه 15 مليون ليرة (أي 1500 دولار على سعر الصرف اليوم) إذهبوا وابحثوا عن عمل يقيتكم في هذا البلد المتهالك." طبعاً لا يجرؤ أحد على المساس بالموظفين المعززين المحشوّين حشواً بوساطات سياسية في الجامعة والمركز الطبي، تحت مناصب وعناوين استحدثت غبّ الطلب للحفاظ على الصيغة اللبنانية الطائفية ستة وستة مكرر. للمفارقة، فإنّ أكثرية الأسماء المقترحة على الصرف هم من المسلمين، وأكثرية الأكثرية هم من الشيعة: لقد كان التوظيف، وبرغم سعي الجامعة للحفاظ على نسب مدروسة لتوزّع الموظفين طائفياً ضمن سياستها التوظيفية في لبنان، غير متناسب من ناحية الدرجات. ولذلك عندما بدأ التشحيل أخذت تتساقط الأطراف، وظهر اختلال التوازن في توزيع درجات الوظائف فاقعاً.
أما عن رواتب أصحاب الشأن الوظيفي، فهي لا تمسّ طبعاً. لم يتعنَّ أحد شرح أين ذهبت ال 500 مليون دولار التي أعلنت الجامعة انها وصلت كتبرّعات خلال حملة اليوبيل ال150 التي منذ 5 سنوات الى اليوم. أموال مشاريع الأبنية الجديدة التي ردمت حفرياتها وتوقّف العمل بها هي أيضاً لا حاجة لتبرير أين ذهبت. المنح الجامعية التي كانت بالأصل نادرة، باتت اليوم أندر. برامج واختصاصات بالجملة يجري الحديث عن أنها ستتوقف، فيما يبدو أنّ المؤسسة التي كانت مضرب المثل في الضخامة ودقّة الإدارة وقوة التوظيف باتت حركتها أثقل من أن تحافظ على جودة خدماتها فضلاً عن نموذجيّتها في لبنان والشرق الأوسط، وقرّرت أن تتبع خيار الربح الأقصى "ماكسيموم بروفيت" من ان تقسم الخسارة عليها وعلى "عائلتها" الكبيرة. أمّا بالنسبة لأسعار الأقساط الجامعية للطلاب، فقد بات مبلغ 40 ألف دولار للسنة الدراسية الواحدة في كلية الطب أكثر من خيالي، فيما تخشى الجامعة من صفوف فارغة في حال افتتحت الحرم الجامعي فصل الخريف القادم.
فضلو - ترامب
لا يُخفي فضلو انتقاداته لترامب. في إحدى المقابلات يصف طالباً اعترض على الزيادات الهائلة في الأقساط بأنّه "كذّاب. كذّاب." ثم يقول للمحاور-المروّج في الحلقة الدعائية: "يبدو أنّ لوثة ترامب واصلة إلى لبنان." يبدو أنّ نهج ترامب المنسحب من المنطقة نحو سواها والمقرّ بنهاية دور التنوير الأميركي وتوجّه الولايات المتحدة نحو الحمائية والشعارات القومية بدلاً عن العولمة وتصدير القيم هو السبب الرئيس في وضع الجامعة الاميركية المهتزّ اليوم. لا شكّ أنّ المحبّين في الولايات المتحدة والعالم كُثر، وهم سيواصلون دعمهم، لكنّ أموال الخزينة الأميركية المفتوحة عبر البرامج الداعمة والمنح يبدو أنّها باتت شحيحة. وإذا استمرّ تراجع مستوى الـ إي يو بي ومركزها الطبي، فإنّ ذلك سيكون الدليل القاطع على أنّ شمس التنوير الأميركي، التي حرقت أخضر الشرق ويابسه تنويرا،ً بدأت بالأفول.
"
Related Posts
كاتب لبناني