لن تُفرج عما قريب. هي عبارة غير مستحبة في افتتاح مقال. أعرف ذلك. لكني أعرف أن عاماً من الإحباط مضى لم يزده سوءاً غير بيع الوهم للناس.
افتتاحية: سنوات القلق
لن تُفرج عما قريب. هي عبارة غير مستحبة في افتتاح مقال. أعرف ذلك. لكني أعرف أن عاماً من الإحباط مضى لم يزده سوءاً غير بيع الوهم للناس. تشكيل الحكومة لم يكن أول الأوهام ولن يكون آخرها. يعتقد غالبية اللبنانيين أن حكومة ستتشكل وستحل مشاكلهم عما قريب. الناس منشغلة هذه الأيام بمعرفة تفاصيل معوقات التشكيل. يتخيل الكثيرون (ومنهم محللين وإعلاميين) أن حكومة "وحدة وطنية" برئاسة سعد الحريري ستمنح مؤشرات إيجابية للسوق وللمجتمع الدولي، ما سيؤدي لتسيير عجلة إقراض لبنان من قبل المجتمع الدولي. ستشعر الأسواق بالارتياح، وسينخفض الدولار، ثم تنتهي هذه السردية السعيدة بعودة السيولة والانفراج. "الحقيقة أعقد من النهايات السعيدة هذه" يقول الواقع. مسار حكومة سعد الحريري -إن تشكلت عما قريب- لن يكون معبداً بالورود في طلب الاستدانة من المجتمع الدولي. الدولار لن يعود إلى ما كان عليه. جزء كبير من الخدمات والسلع ستتكيف مع سعر الصرف الجديد. لنفترض أن سعر الصرف سيكون بحدود الـ4000 ل.ل للدولار بنهاية هذا العام (في أفضل الأحوال). هذا يعني أن جزءاً من الخدمات والسلع ستزيد غلاءً بنحو 250% في أقل تقدير. بمعنى آخر، سيتمخض هذا المسار ليولد انفجاراً اجتماعياً لدى الطبقات الوسطى والفقيرة نهاية العام. هذا لو أردنا التفكير بنهايات سعيدة لما نحن فيه.
المشكلة أكبر مما يتخيل اللبنانيون. هي ليست مشكلة اقتصادية فحسب، وهي أكبر حتى من أن تكون مشكلة نظام سياسي. المشكلة في أن الظروف التي أنتجت هذا "الكيان – الهجين" المسمى لبنان، وطبقته الحاكمة، لم تعد موجودة اليوم. محقاً كان ريجيس دوبريية في تنبهه لضرورة أن تعي الطبقة الحاكمة أهمية إعادة إنتاج ظروف تشكلها الأولى على الدوام، إذا ما أرادت الاستمرار، وهو ما لم تعه الطبقة الحاكمة في لبنان منذ عام 1990 إلى اليوم. مقاربات سيمون كوزنتس حول التوزيع العادل للثروة من خلال تنامي الرأسمالية وفق معدلات تفوق الـ5%، التي تبنتها النخبة الاقتصادية الحاكمة في لبنان هي إحدى الكوارث الكفيلة بتفجير لبنان كل جيل أو جيلين.
ومع ذلك تتجاوز الأزمة في بعدها النقدي حدود لبنان ومشاكله. الإيمان بدور البنوك المركزية في الاستقرار (وفق رؤى ميلتون فريدمان وآنا شوارتز) لم يعد أمراً مسلماً به اليوم. في كتابه عن رأس المال في القرن الواحد والعشرين يطرح توماس بيكيتي أسئلة حول وظيفة القطاع المصرفي ودوره راهناً؛ ما الذي تفعله البنوك المركزية بشكل ملموس في الواقع؟ ومم تتكون السياسات النقدية "غير التقليدية" التي تمت تجربتها منذ عام 2007 إلى اليوم عند الأزمات؟. معضلات عدة تواجه دور البنوك المركزية برأيه، أبرزها: التكامل بين الرقابة على البنوك وتوزع رأس المال، ثم افتقاد الدول والسلطات للسجل المالي الشفاف للمصارف المركزية بما يسمح للسلطات توزيع الخسائر والمجهودات بشكل شفاف وكفوء (وهو الكارثة التي ألمت بقبرص 2013، ومن قبلها اليونان وإيطاليا وإسبانيا، ولبنان حالياً). ما يعيشه القطاع المصرفي والسياسات النقدية من تعثر اليوم يتجاوز حدود لبنان؛ في تركيا، مصر، اليونان، بولندا، وغيرها، ثمة انفجارات اجتماعية مرتبطة بالمصارف تحدث الآن، أو ستحدث عما قريب.
عقد من القلق الأميركي:
بعد انهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي، اختل توازن الشرق الأوسط ما بين الشرق والغرب بشكل حدي. سقط الاتحاد السوفياتي لكن أميركا لم تكن قد حسمت نصرها في السياسة بعد. استراتيجية كلينتون تأخرت عامين قبل إعلانها نظراً لضبابية المشهد آنذاك. عربياً، صار مسار السلام بمثابة الطريق الأوحد للمضي سياسياً وحفظ بنى الأنظمة من الانهيار. بعيد مدريد مضى الجميع في خيار "السلام" وكان الجميع في الآن عينه يعلم أن ما من حل للقضايا الكبرى بعد. المفاوضات كانت تعبيراً عن موازين القوى الدولية آنذاك؛ الاتحاد السوفياتي انتهى، الولايات المتحدة لم تتسيد العالم بشكل كلي. فلسطينياً أحيلت أغلب الملفات الكبرى لمفاوضات الحل النهائي. كان محور تلك المفاوضات اللاجئين، المياه، الحدود، والسيادة. وهي الملفات العالقة اليوم في كل مشاكل الشرق الأوسط.
ثمة مسارات من التسوية كانت قد بدأت من قبل، آستانة وسوتشي في ما يخص سوريا، برلين وتونس بالنسبة لليبيا، جينيف بالنسبة لليمن. لكن المسارات هذه كلها تشبه إلى حد كبير مسارات مفاوضات الحل النهائي الفلسطيني. ما من حل واف وشاف للأزمات التي يعيشها الشرق الأوسط. والحيرة الأميركية سترخي بظلالها مراوحة إلى حد بعيد. أميركا قلقة؛ هذا عقد القلق الأميركي. الأميركيون قلقون؛ ترامب قلق على الهوية الأميركية بسبب العولمة. الكونغرس قلق على أمن أميركا بسبب المهاجرين، بايدن قلق من قدرة الإدارات الأميركية على حل مشكلات المواطن الأميركي. أميركا تخرج إلى العالم خوفاً من أن تفقد دورها فيه. والعالم يدخل في أميركا لأن لديه ما يقدمه لها. الانتخابات الأميركية كانت الفيصل بين اتجاهين، يريد ترامب إعادة الزيت لمحركات مناطق حزام الصدأ في الشمال الشرقي من البلاد. ويريد بايدن الانخراط في الهوية العولمية إلى أقصى الحدود. الولايات المتحدة معلقة بين عالمين. حائرة بين زمانين، توجهين، سياستين، ودروب كثيرة وعرة.
"Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق