بعدما أعيد انتخاب «كليفلاند» رئيسا للولايات المتحدة عام 1892 كانت حالة الغضب قد وصلت إلى ذروتها، وقد لجأ الرئيس إلى استخدام القوات العسكرية للسيطرة على الأوضاع المنفلتة بسبب الكساد الذي ضرب البلاد، وذلك لردع 'جيش كوكسي'" الذي قاد العاطلين حتى وصلوا إلى واشنطن."
أمريكا وهندسة التفاوت الطبقي
"صحيح أن الثروة زادت إلى حد كبير وأن مستوى الراحة واليسر قد ارتفع، لكن هذه المكاسب ليست للجميع حيث لا تنالُ الطبقات الدنيا شيئا من ذلك.. الأمر الذي يجعل من ارتباط التقدمِ بالفقرِ لغزاً محيراً .. إن العالم المتحضر يتأرجح على حافة حركة ما عظمى من شأنها أن تكون إما قفزة إلى الأمام وإما ردة تأخذنا باتجاه البربرية"
هنري جورج - التقدم والفقر
***
بعدما أعيد انتخاب «كليفلاند» رئيسا للولايات المتحدة عام 1892 كانت حالة الغضب قد وصلت إلى ذروتها، وقد لجأ الرئيس إلى استخدام القوات العسكرية للسيطرة على الأوضاع المنفلتة بسبب الكساد الذي ضرب البلاد، وذلك لردع "جيش كوكسي" الذي قاد العاطلين حتى وصلوا إلى واشنطن. وتكرر الأمر في العام التالي مع الإضراب الوطني في شركات السكك الحديدية. هذا عن الرئاسة، أما المحكمة الدستورية فقد أعلنت عن انحيازاتها بطريقة أخرى رغم الروب الأسود رمز العدالة!
قبلها بعامين حدث جدل حول "قانون شيرمان" لمقاومة الاحتكار، وُصِف القانون بأنه يحمي التجارة من القيود غير القانونية، وفي دفاعه عن قانونه قال "شيرمان": يجب ترضية منتقدي القانون، لقد كان لديهم احتكارات قديمة ولكنها لم تكن على النحو الذي نشهده اليوم، ولابد أن نخضع قليلاً لمنطقهم وإلا فعلينا أن نستعد لاستقبال الاشتراكيين والشيوعيين والعدميين، إن المجتمع يضطرب الآن بقوى لم نشعر بها من قبل. (لعل "منطق تشيرمان" يسري إلى الآن، ويوضح ماهية اختلاف الساسة، سيما مع عدم وجود تناقض جذري بينهم).
قدمت المحكمة الدستورية تفسيراً لـ"قانون شيرمان" على نحو يجعله غير ضارٍ بالمصالح القائمة، فعلى سبيل المثال، قالت إن احتكار تكرير السكر يعني مسألة التصنيع وليس التجارة، ومن ثم لا تخضع مسألة التجارة في السكر لقانون شيرمان! كما قالت المحكمة أن قانون شيرمان من الممكن تطبيقه على الإضرابات فيما بين الولايات (إضراب السكك الحديدية) لأنها تُعد قيداً على التجارة! كما اعتٌبرت محاولة الكونجرس فرض ضريبة أكبر على الدخول المرتفعة مسألة غير دستورية، مما دفع مصرفي نيويوركي للسخرية قائلا: أيها السادة.. أقدم لكم المحكمة الدستورية العليا، حارسة الدولار وحامية الملكية الخاصة.
يتساءل "هوارد زن": كيف كان يمكنها التحلي بالحياد بينما غالبية أعضائها محامون أثرياء سابقون وعادة ما ينتمون إلى الطبقات العليا؟ وعلى نفس النول غزل المحامون، بدأت نقابة المحامين الأمريكية، والتي شكلها محامون معتادون على خدمة الأثرياء، حملةً تعكس قرار المحكمة، قال رؤساء النقابة لو أن الاحتكارات سلاح دفاعي للملكية الخاصة ضد التيار الشيوعي فأهلا بها، بل سيكون الاحتكار مزيةً وضرورة! على الهامش، لعل الاطلاع على قناعات الأفراد الذين يشكلون أي مؤسسة أو يقومون بسن القوانين وتفسيرها يساعد على فهم الكثير، لأن هذه القناعات هي بالنهاية ما يحدد مسار كل شيء.
دعونا نتعرف على قناعات قاضي المحكمة الدستورية(ديفد ج. بروير) من خلال حديثه إلى نقابة المحامين في نيويورك عام 1893: "القانون الذي لا يتغير هو تركز الثروة في يد القلة، والغالبية العظمى تعاني حرمانها الدائم، ذلك ما يجعل تراكم الأموال في أيدي القلة أمرا ممكنا، ومن هنا، وحتى تتبدل الطبيعة البشرية، سوف يظل هذا القانون قائما.. قلة تحوز ثروة الأمة بينما تعيش الكثرة من أفرادها على كدها اليومي".
هنا يجب التساؤل، هل يكفي لفرض النظام في مجتمعات تمزقها الطبقية والاحتكارات والعبودية والفقر استخدام القوة (مؤسسة تنفيذية وقوات) والاحتكام إلى القانون (محاكم)؟
يجيب "هوارد زن" قائلا: يتطلب فرض النظام في العصور الحديثة ما هو أكثر من القوة وما هو أكثر من القانون. إنه يحتاج إلى أن يتعلم المتكدسون في المدن والمصانع ومن لديهم أكثر من سبب للانتفاضة والثورة أن كل شيء على ما يرام، وأنه لابد من قبول الأمور كما هي، ومن ثم قامت المدارس والكنائس وأدب الثقافة الشعبية بتكريس ذلك في عقول الناس بحيث يتعلمون أن الثراء دليل على رقي المرتبة، وأن الفقر ليس إلا فشلاً شخصياً، وأن الطريق الأوحد للصعود هو التسلق للوصول إلى مراتب الأثرياء وهو ما يحتاج إلى جهدٍ غير عادي وحظٍ استثنائي.
بدون جهد يمكنك مصادفة هذه النماذج التي آمنت بهذا المنهج، ويروجون له ويتبنونه، وهؤلاء خير سند لكبار اللصوص ولأي عصبة حاكمة في أي بلد وأي مجتمع. هؤلاء هم أحفاد "راسل كونيل". تخرج "راسل كونيل" من جامعة "ييل"، درس القانون وكان راعياً كنسياً، وفي سنوات ما بعد الحرب الأهلية الأمريكية ألف الكتب وألقى المحاضرات، ومن بين أشهر محاضراته كانت محاضرة بعنوان "قراريط من الماس"، ألقاها آلاف المرات لجموع مختلفة في أرجاء البلاد، وصل بكلامه لعدة ملايين مردداً: "أغنياء المجتمع هم أكثر الناس أمانةً وإخلاصاً، دعوني أعلن هنا بكل وضوح أن ثمانية وتسعين بالمائة من أغنياء أمريكا أمناء، وهذا هو سبب ثرائهم. وهو أيضاً السبب في أنهم مؤتمنون على المال. ولذلك تراهم ينشئون المؤسسات والشركات ويتدافع عليهم الكثير من الناس للعمل لديهم، إنما يعود ذلك إلى أمانتهم. إنني أتعاطف مع الفقراء، غير أن عدد من يستحقون التعاطف منهم قليلٌ جداً. وإنه لمن الخطأ أن نتعاطف مع إنسانٍ عاقبه الرب بالفقر نتيجة ارتكاب الخطايا. ولنتذكر جميعا أن الولايات المتحدة ليس بها فقير لا يعود فقره إلى عيوب فيه أو إلى تقاعسٍ منه".
ألا يذكرك هذا الحديث ببعض رجال الأعمال الذين يتحدثون ببجاحة ووقاحة عن أن ثرواتهم تنزلت عليهم من لدن الله وذلك بعد سرد رحلة "كفاحه"، وأن فقرك مرده إلى خللٍ بنيويٍ لديك وإلى إرادة الله (ألا يذكرك هذا الحديث بالمتزلفين والمنتفعين وفقهاء السلطان وماسحي الجوخ والباحثين عن فتات اللصوص الكبار ولو على أشلاء مجتمعاتهم). لم يكتف "كونيل" بالتأليف وإلقاء الخطابات، بل أسس جامعة، وكان أول المتبرعين هو "روكفيلر"، وبذلك فتح الباب واسعا للأثرياء للسيطرة على عقول الأجيال القادمة، وفي الوقت نفسه عرفوا بإحسانهم وفعلهم للخير عن طريق بعض التبرعات وأفعال الخير. فبالطبع لم تكن هذه المؤسسات التعليمة تشجع على الغضب والتمرد، فقد كانت تعلم المتوسطين في النظام الأمريكي (المدرسين، الأطباء، المحامين، المهندسين والساسة) أي أولئك الذين سيتلقون الرواتب مقابل الحفاظ على استمرارية النظام وأن يكونوا حوائط صد -كلٌ على طريقته وحسب مهنته - ضد الاضطرابات. وساعد انتشار التعليم على التمكن من محو أمية جيلٍ كاملٍ من العمال الذين أصبحوا الطاقة الكبرى للعصر الصناعي، وكان الأهم أن يتعلموا أهمية إطاعة السلطة.
بالتزامن وضع "وليم باجلي" كتاب "إدارة الفصل المدرسي"، الذي عُدّ الكتاب الأمثل لتدريب المدرس حتى في القرن العشرين. يقول "باجلي": بإمكان من يدرس النظرية التعليمية كما ينبغي، أن يرى في النظام الروتيني للفصل المدرسي كيف تتكاتف القوى التعليمية لتقوم تدريجيا بتحويل الطفل من همجي صغير إلى مخلوق يعرف القانون والنظام ويصير لائقاً لحياة المجتمع المتحضر.
على الهامش مرة ثانية: في العقدين الأخيرين في مصر حدث ما يعتبر محاكاة لهذا النموذج، استثمر رجال المال في التعليم، أصبحت مصر مكب نفايات وحقل تجارب تعليمي، يتخرج سنوياً آلاف لا يربط بينهم رابطٌ إلا الولاء لأفكار تشرّبوها داخل هذه المدارس والجامعات، وذلك بالطبع بتواطؤ من الحكومة التي تشرف في مدارسها على إعداد العمال الذين سيعملون لدى خريجي هذه المدارس!
في المقابل، نهض أدب للسخط والاحتجاج، منه كتاب "التقدم والفقر" المقتبس منه مستهل هذه السطور، ولعل هذه الكلمات صالحة إلى الآن وتناسبُ اللحظة الأمريكية الراهنة. وتَقدم نوع آخر من الأدب لتحدي النظام الاقتصادى والاجتماعي، تمثل في رواية "النظر إلى الوراء" لـ"إدوارد بيلامي" ــ ينام بطل الرواية ويصحو في العام 2000 كي يجد أمامه مجتمعا اشتراكيا يعيش الناس فيه في تعاون. أسهمت تلك الرواية وقتها في تشكيل جماعات أصبح همّها تحقيق الحلم، والذي لم يتحقق إلى الآن، لأن النظام والمجتمع تمت هندستهما من القمة إلى القاع بطريقة احترافية كما رأيت.
"Related Posts
كاتب مصري