Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

أحدثت الانتخابات النيابية الأخيرة ثورةً من الجدل فيما خص أوزان القوى الفرنسية، خاصة حزب التجمع الوطني. فعلياً حصلت لوبان على الأكثرية النيابية ممثلة لحزب واحد. الأكثرية النيابية اليوم والتي تعبّر عن تجمع أحزاب عديدة مؤيدة للرئيس، يليها اليسار بكل أحزابه، ومن ثم اليمين المتطرف الذي حصل على 89 نائباً وحده، غير أن في باقي الأحزاب (ما خلا اليسار) فيهم من هو متطرف أكثر من لوبان ومريديها

حمزة محيي الدين

فرنسا اليمين المتطرف... والتغيرات غير المتوقعة

تتميّز فرنسا بالفرقة الواضحة بين اليسار واليمين، وبأن ثورتها المحض باريسية أرست قيماً معادية للملَكية وأعادت النظر في الكثير من منهجيات السياسة، كما وأفضت الى تعديل الجمهورية خمس مرات. لكننا اليوم أمام مشهد جديد يتطلب إعادة تعريف اليمين واليسار، عقب مواقف وسياسات اليمين الفرنسي الجديدة.

لطالما كان اليمين الفرنسي المتطرف محط ذمّ دائم، ورغم المواطنة الفرنسية القوية والمشاعر القومية لدى الشعب، لم يكن لليمين المتطرف أن يطغى على المجتمع من قبل. فرنسا التي أرسى فيها اليسار إبان حكم فرنسوا ميتران قيماً اشتراكيةً باتت جزءًا من الهوية الفرنسية، تترنّح اليوم بين يسار بألف رأي وحزب، ويمين متطرف بقيادة حزب التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقاً) الذي ترأسه مرشحة الرئاسة الخاسرة مارين لوبان، والمستفيد الوحيد من هذا الحال هو اليمين المتطرف بالتعريف الكلاسيكي لليمين، والذي صار وسطاً، حيث يشكل القوة المؤسساتية للوبي الشركات بتعبير زعيم اليساريين في حزب فرنسا العصية جان لوك ميلانشون.

أحدثت الانتخابات النيابية الأخيرة ثورةً من الجدل فيما خص أوزان القوى الفرنسية، خاصة حزب التجمع الوطني. فعلياً حصلت لوبان على الأكثرية النيابية ممثلة لحزب واحد. الأكثرية النيابية اليوم والتي تعبّر عن تجمع أحزاب عديدة مؤيدة للرئيس، يليها اليسار بكل أحزابه، ومن ثم اليمين المتطرف الذي حصل على 89 نائباً وحده، غير أن في باقي الأحزاب (ما خلا اليسار) فيهم من هو متطرف أكثر من لوبان ومريديها؛ المثال الأبرز ها هنا، هو وزير الداخلية جيرالد درمانان (ذي الأصول العربية بالمناسبة) وهو المتطرف الذي يعاني من الإسلاموفوبيا بحسب وصف لوبان.

لوبان تغيّرت في خطابها بين رئاسيات 2017 ورئاسيات 2022، فقد باتت أقل عدوانيةً، ما حذا بإريك زمور (ذو الأصول الجزائرية) بطرح نفسه بديلاً لأن لوبان لم تعد بالراديكالية المطلوبة لدى يمين يتغذى على الكراهية، ويجعل من مكافحة الهجرة غير الشرعية عمود حملته. وللمفارقة حصل زمور على أكثر من مجموع ما حصلت عليه مرشحتا الحزبين التقليديين في الحكم؛ الاشتراكي والجمهوري.

لا يُذكر عن اليمين المتطرف الفرنسي في أيامنا أنه الأقل رغبةً في الـ"غزو" لبلدان الأطراف، وأنه يريد أن يُحجم عن نفسه خطر وحول الحروب في الخارج، والتبعية للناتو. يجاريه براديكالية أقل حزب "فرنسا العصية" من اليسار المتطرف، وحزب "معاداة الرأسمالية الجديد" بقيادة المرشح الدائم للرئاسة فيليب بوتو، المتميّز عن كل المشهد الفرنسي.

أما في ما يخص المشهد النيابي وصعود اليمين، فقد أقلق هذا الأمر باقي أطراف المجتمع الفرنسي، وهنا لا بد من ذكر أن هوى الشباب ما دون الخامسة والثلاثين عاماً يميل إلى اليسار (لصالح ميلانشون)، لكن أغلبهم (أكثر من 80%) لا ينتخب لعدم وعيه السياسي الكافي. ثم إن أكثر من ثلث سكان فرنسا ما دون الخامسة والستين عاماً، وهم من أصول غير فرنسية. يُدين أغلب هؤلاء للرئيس الحاكم أياً كان، لشعروهم بمنّة التقديمات الاجتماعية غير الموجودة في بلادهم الأصلية. لذلك، وعند كل استحقاق فرنسي ينتخب الناس ضد حزب التجمع الوطني دون أن يقرؤوا برنامجه. إذ من غير المجدي أن تقرأ ماذا تريد مارين لوبان، "اكرهها وانتخب ضدها وامضِ"، هكذا يُصار حرفياً. وتجب الإشارة إلى أن صعود اليمين المبهر لن يكون مبهراً إذا نظرنا الى المجتمع الذي تشكل فيه الطبقى الوسطى أغلبية، وهذه الطبقى يدغدغ اليمين أحلامها بطروحاته المتعلقة بتخفيف الضرائب وهذا ما يُنتقد اليسار لأجله، حتى أن الحزب الجمهوري سمّى نفسه حزب الطبقة الوسطى ولكنه لم يفلح بتخطي يمين الماكرونية السياسية التي أيّدها كبار السن هذه المرة ممن كانوا ذخر اليمين المتطرف سابقاً.

فرنسا اليوم في حالة من خلط الأوراق الشعبوية تذكّيها التحوّلات العالمية، والأوروبية الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بالحرب الروسية – الأوكرانية. لكن كل هذه التحولات تصبّ في مصلحة اليمين المتطرف بعد التململ من فقدان فرنسا لعظمتها التاريخية، وتأثّر الشعب بكلّه وكلكله من سياسات الحكومة الخارجية، وإيلاء الاهتمام للسياسة على حساب الاقتصاد، بوضع الاقتصاد بالدرجة الثانية لا الأولى. ومما لا شكّ فيه أن يمين لوبان يعتمد بشكل أساسي على القومية في خطابه وهو لم يستحِ من تكرار مصطلحات حقبة الاستعمار وغزو البلاد الواقعة ما وراء البحار، وهذا ما لا يُعتبر مستساغاً لدى الكثير من الفرنسيين، بالرغم من توجّهاته الاقتصادية الأقل يمنيةً من التوجهات الماكرونية.

في الوجدان الفرنسي اليوم، تحمل لوبان مشروع السيادة الفرنسية، أما ماكرون فيحمل مشروع السيادة الأوروبية. وهذا سيؤثر حكماً في نتائج الانتخابات المقبلة، وقد يقلب الطاولة ويؤدي الى حكم اليمين المتطرف لأول مرة في الجمهورية الخامسة. إذا أرادت لوبان أن تتوّج على رأس الجمهورية الخامسة بعد خمس سنوات عليها أن تستميل المسلمين، ولذا فإن تخليها عن سخافة خطابها في استعداء الحجاب والذبح الحلال، ولو ظاهرياً، قد يدفع بشعبيتها إلى الأعلى، خاصةً أن إدوار فيليب (ظاهراً هو الذي سيخلف ماكرون) ليؤمِّن استمرارية النهج القائم اليوم هو الذي استقال بحكومته إثر فشله الذريع بإدارة أزمة الكورونا أوائل عام 2020. قد يشكل اليسار حائطاً منيعاً أمام رئاسة لوبان للجمهورية، فقط وفقط، في حال توحّده في جبهة واحدة كما فعل في الانتخابات النيابية. ومع ذلك، ستقف بوجهه مخملية الطبقى الوسطى التي تنمو على هاجس تحويل اليسار فرنسا إلى كوريا الشمالية، خوفاً من الاقتطاع الضرائبي لمصلحة ذوي الدخل المحدود، والضئيل، والعاطلين عن العمل.

ختاماً علينا أن نعترف أن التركيبة الفرنسية اليوم تكاد تكون الأعقد في التاريخ المعاصر - على أضعف تقدير - بعد عودة الإدارة البرلمانية للدولة في المجلس الحالي المتحد – المنقسم. ففيه يجتمع المتناقضون وبه تجتمع التناقضات، ومن غير الممكن توقع الآتي لأي طرف سياسي. كل الأطراف تحاول معاجلة خللها الخاص بجذب الشعب، وكلها ترتقب التحوّلات العالمية لاصطياد الأكثر ملاءمة من أحلام حُكمها لدولة شهدت تاريخاً لا يستهان به على شتّى الصعد، لكن ما يمكن تأكيده هوأن الشعب الخاسرالأكبر، وسيخسر أكثر، ولن تعود فرنسا الثمانينيات والتسعينيات إلى سابق عهدها.

 

باحث وأستاذ جامعي