لم تكن العروض الدموية في حلبات روما بين المصارعين (العبيد من كل أصقاع الارض) والحيوانات المفترسة المجلوبة من قارات بعيدة تُقام لمجرد تسلية الجماهير وشغل أوقات فراغها، لكن كان من بين أهم أهدافها إثبات أن هذا المركز الإمبراطوري يسيطر على مساحات شاسعة من العالم وقتذاك ويتحكم في شبكة هائلة من الطرق ويدير منظومة تجارية ضخمة بمقاييس عصرها
أمة في المعرِض
لم تكن العروض الدموية في حلبات روما بين المصارعين (العبيد من كل أصقاع الارض) والحيوانات المفترسة المجلوبة من قارات بعيدة تُقام لمجرد تسلية الجماهير وشغل أوقات فراغها، لكن كان من بين أهم أهدافها إثبات أن هذا المركز الإمبراطوري يسيطر على مساحات شاسعة من العالم وقتذاك ويتحكم في شبكة هائلة من الطرق ويدير منظومة تجارية ضخمة بمقاييس عصرها. كذلك كان جوهر النظرة الأوروبية مع التوسع الاستعماري في القرن التاسع عشر، حدائق حيوانات ومعارض نباتات في مدن أوروبا تحتوي على أنواع من كل أنحاء الدنيا كدليل على القدرة والتوسع والسيطرة ودليل كذلك على أن سكان المراكز الإمبراطورية باستطاعتهم مشاهدة العالم الذي يسيطرون عليه.. العالم كمعرِض!
في تلك الفترة تعالت أصوات أوروبية تنادي بأفكار مثل شق قناة بنما وقناة السويس، وتنظيم المعارض العالمية، وذلك لفتح العالم أمام الحركة الحرة للسلع. واستجابة لنداءات الدواعي الإمبراطورية ومتطلبات الرأسمالية الاستعمارية نُظم في لندن سنة 1851 معرض قصر كريستال. وبعدها توالت المعارض إلى أن قررت فرنسا تدشين أول معرض يحتوي على "أجنحة وطنية". وفي جانب من "الجناح المصري" في معرض باريس كان الخديوي اسماعيل يُنطر إليه كجزء من المعروضات، حيث جلس بمظهر يرضي المخيال الغربي وقتذاك عن الشرق، كما تم استيراد أكثر من عشرين حمار من مصر لوضعهم في الحارة القاهرية بالجناح المصري لتكتمل الصورة!
يبلور "تيموثي ميتشيل" في كتابه "استعمار مصر" فكرة مفادها أن الاستعمار الأوروبي ظل محكوماً في نظرته للعالم وشعوبه بزاوية رؤية واحدة: العالم كمعرِض! فتنظيم المعارض كان لجر الأمم الأخرى لمشروع الرأسمالية الحديثة. لذلك، وفقا لميتشيل، أعيد بناء القاهرة ومدن أخرى في الشرق وفق مبدأ المعرض، كان القصد منها هو حفر التحول السياسي والاقتصادي العالمي على هيئة واجهات خارجية لمدن جديدة، شأنها في ذلك شأن عرض السلع في المعرض، يمكن اعتبارها سلسلة من العلامات أو التمثيلات لتغيرات اقتصادية "تحتية" أكبر.
لا يختلف حال بلادنا ومجتمعاتنا اليوم عن تلك الفترة، بل لعله أكثر تعقيداً لدرجة وصل معها الأمر إلى تحويل مجتمعات بأكملها لمعارض كبيرة. معارض عمران وبقايا إنسان! بعد عقود من السياسة التي طبقها حكام بلادنا علينا بنفس النحو الذي طبقه الاستعمار، وإن بنسب تختلف باختلاف القدرات المالية والمكانة الوظيفية لكل نظام حكم. لقد كان الاستعمار حريصاً على إنشاء واجهات مدينية كولونيالية جديدة تمثل الطابع والشكل الحداثي، لكنه كان أشد حرصاً على إبقاء الأحياء القديمة ببؤسها وفقرها وفوضاها، ليقول هذه حداثتنا وهذا تخلفكم! بعبارة أخرى، على حد تعبير ميتشيل، مقابل كل معرض متحف!
وكما تعددت مقاصد النزالات الدموية في حلبات روما القديمة، تتعدد مقاصد إقامة المعارض في عالمنا الحديث. فمن إثبات التفوق والسيطرة وترسيخ معنى القوة إلى إلهاء الجماهير بما عرف بسياسة الخبز والألعاب وبينهم رغبات اللحاق بقطار الحداثة والفرار من قافلة التخلف يمكن النظر إلى حدث كمعرض دبي!
سنة 1915 قرر الماريشال "ليوتي" حاكم المغرب تحت الاستعمار الفرنسي البدء بتنظيم معارض تجارية بالمدن المغربية. تركت هذه العروض أثراً كبيراً على الناس، لدرجة أن أحد زعماء المجاهدين في الجبهة الشمالية طلب عقد هدنة والسماح له بالذهاب إلى المعرض، وبالفعل تمت الموافقة وزار المعرض، وبعد الزيارة استسلم هو وقبيلته!
ماذا لو أسقطنا هذه الرواية الفرنسية - التي يمكن التشكيك فيها - على واقعنا؟!
أن تتحول، حسب تعبير ميتشل، إلى مواطن ينتمي للعالم المعرضي ذلك يعني أن تصبح مستهلكاً للسلع والمعاني. مع التدقيق في عالم اليوم نجد أن هذا المعنى لا ينطبق على الأفراد فقط، بل يمتد أثره ليشمل دولاً ومجتمعات بأكملها. محلياً، وكمثال، في مجتمع ريفي الطابع كالمجتمع المصري، هناك استجابة جماعية لنداء العالم المعرضي المتمثل في المدن الكبيرة أو تلك القائمة على أنشطة سياحية، ينتج عنها نزوح مستمر من الريف إلى أطراف المدن، ومن يسعده حظه يلقي بفأسه ويهجر أرضه أو مهنته ليعمل كحارس عقار أو في خدمة توصيل الطلبات في المدن الجديدة (باتت المجتمعات السكنية الجديدة حول القاهرة تمثل ما كانت تمثله سياسة الاستعمار العمرانية، معارض ومتاحف، طبقات ثمثل الوجه الحداثي للبلد مقابل "متاحف" من الزحام والفوضى والفقر كدليل على مجهودات السلطة في التحديث!).
وكما تُسَوَّق السياسات المحلية لبعض الدول – كمصر - باعتبارها إنجازات ولحاق بركب التحديث وإيهام المواطن بأن البناء للبناء هو الغاية والوسيلة، رغم أن وراء ظواهر الأمور ما يشير لفلسفة حكم تكرس الإفقار والتهميش والتخلف، وكما سُوِّق، على الصعيد الدولي، لبلاد باعتبارها أنموذجاً للتقدم والرقي والتطور، كحلفاء أمريكا الآسيويين - رغم أنهم مع التدقيق ليسوا إلا قواعد عسكرية أمريكية ومعارض للنموذج الحليف للغرب اقتصادياً وسياسياً - تُزف إلينا اليوم دول الخليج كنموذج جدير بالاتباع!، لكن الخطر في "المعرض الخليجي" يكمن بوجوده في قلب متحف حي من الحروب والصراعات، فمعضلة "الخليج كنموذج" أنه يُعرض لمحيطه الفقير باعتباره رمزاً للحداثة والتقدم، بل ويذهب البعض إلى جعله قاطرة تجر وراءها أمةً منهكة متخلفة. وشعوب الأمة قد أصابها العمى لأن القاطرة مطلية بقشرة لامعة تزيغ الأبصار وتشتت الانتباه. فلا يسأل أحد عن محركات القاطرة ولا اتجاه القطبان ولا محطة الوصول! رغم أن محرك القاطرة غربي أميركي، ووقودها مزيج من فوائض أموال وآمال وضغائن تعمي عن سوء المآل، كل ذلك يوصل لمحطة واحدة باسم "اسرائيل"! بعبارة أخرى، إذا كان بعض الأحياء في مدن كالقاهرة والرباط وبيروت والإسكندرية قد مثلت في فترة ما واجهة الاستعمار كمدن كوزموبوليتانية تمثل سياسته وفلسفته ومعارضه، فالدول والمجتمعات الخليجية اليوم، سيما الإمارات، هي معرِض "اسرائيل" ومثال تفاخر به كنموذج للمتعاونين والمطبعين. لكن ثغرة في هذه الفرضية، قد نجدها من زاوية أخرى، وتتمثل في دول كمصر والأردن! أو لعله مجرد ترتيب للعرض كما كان في باريس، حيث كان الخديوي تعبيراً عن أبهة الحاكم الشرقي في خيال المشاهد الأوروبي والحمير والسوق والبنايات المتهالكة معبرة عن التخلف والفوضى!
في هذا الإطار ينبغي وضع حدث كمعرض دبي أو استضافة قطر لكأس العالم، بل ودور دول الخليج عموماً في السياسات الإقليمية والعربية بالعقود الفائتة. فلو تأملت بالدور الخليجي في محيطه، بمقوماته وتأثيره، لوجدته وقد ترك أثراً كالذي تركته معارض الماريشال "ليوتي" على بعض المجاهدين المغاربة ضد الاحتلال الفرنسي، أي الاستسلام والإرتماء في أروقة المعارض والتحول إلى مجتمعات مستهلكة للسلع والمعاني، منفصلة عن ذاتها وعن قضاياها (في خضم الجولة الأخيرة من الحرب مع العدو في غزة، كان جل هم بعض الغزاويين ضياع ذكرياتهم في أروقة ومقاهي ومحلات التسوق في الأبراج التجارية الحديثة، والتي بنيت بأموال قطرية وهدمت تحت القصف، وهؤلاء - على الأرجح – ربما لو كانوا في موضع يسمح لهم باتخاذ القرار، قد يلقون بالسلاح في سبيل حياة الاستهلاك والتسوق والتسكع في أروقة المعارض!).
الدور الخليجي اليوم هو الذي يسمح لنموذج كنديم قطيش بالخروج علينا عبر شاشة سكاي نيوز ليعلن بكل ثقة، على طريقة الاستعمار الأوروبي في وضع حد بين الأحياء الحديثة المرتبة والمنظمة كمعرض، وبين الأحياء الوطنية الفقيرة الفوضوية، أو بين المعارض والمتاحف، قائلاً: اليوم في منطقتنا إما النموذج المقاوم الممانع الفقير الذي يهجِّر شعبه ويهرب شبابه أو نموذج "إكسبو دبي". وكما يُقال: قد تكون الدوافع بغيضة لكن المنطق سليم، أو العكس. وذلك يدعونا للتأمل في كلام قطيش، لأن واقعنا يعضد منطقه، فبلادنا اليوم إما معارض ترمز - على عكس ما تبدو - لمرحلة انحطاط تاريخي وانبطاح وتبعية وتطبيع ومجتمعات رخوة، أو متاحف يتلفت سكانها حولهم فلا يرتد إليهم بصرهم إلا بسراب أمجاد غابرة وأطلال أفعال وسرديات محنطة في ثنايا الذاكرة. معارض لامعة تخفي عطب محتوياتها أو متاحف يصعب إحياء مومياواتها.
Related Posts
كاتب مصري