تكثر التحليلات الآن في كثير من الصحف العالمية عن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. وهناك تركيز كبير من المحللين الغربيين على أن هذا الحدث يشكل النهاية الحقيقية لحقبة ما بعد الحرب الباردة لكونها أول حرب تقوم بين دولتين في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية
العقلانية في مواجهة البروباغاندا
تكثر التحليلات الآن في كثير من الصحف العالمية عن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. وهناك تركيز كبير من المحللين الغربيين على أن هذا الحدث يشكل النهاية الحقيقية لحقبة ما بعد الحرب الباردة لكونها أول حرب تقوم بين دولتين في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
الكثير من المحللين الغربيين يشبّهون الحدث الحالي ببداية الحرب العالمية الثانية ويركزون على المقارنة بين دخول روسيا لأوكرانيا وأزمة السوديت عام 1938، ويحذرون من أن تكرر القوى الأوروبية نفس الخطأ الذي قامت به حين وقعت مع أدولف هتلر معاهدة ميونيخ 1938 التي سمحت له بضم إقليم السوديت لألمانيا. وبالتالي أتاحت له التوسع في أوروبا. حيث كان اجتماع ميونخ بداية نهاية السلام الاوروبي والعالمي في نظر الكثير من المؤرخين لأنه أظهر ضعف فرنسا وتردُّد بريطانيا في مواجهة ألمانيا عسكرياً. وبالتالي، يرى بعض المحللين اليوم أن أي تسامح مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يعطي فرصة له بتكرار ما قام به هتلر. يعتمد هؤلاء المحللون على مقارنات بين شخصية أدولف هتلر وفلاديمير بوتين، فتكثر التحليلات النفسية التي تفضي إلى عدم اتزان الشخصيتين وعلى إصابة كليهما بمرض البارانويا (ما يعرف بجنون الارتياب) مما يؤدي إلى رغبة في التحكم المطلق بكل القرارات. كمثال، صرح كليمان بون مسؤول الحكومة الفرنسية لإدارة العلاقات الأوروبية أن خطاب بوتين فيه الكثير من الوهم وجنون الارتياب ونشرت الصحف الفرنسية أخباراً مفادها أن ماكرون في لقائه مع الرئيس بوتين في السابع من شباط قد وجده (أكثر صلابة وعزلةً وأنه يعاني من نوع من الانجراف العقائدي والأمني على حد سواء). هذا وقد صرّح رئيس دولة التشيك بعد الدخول الروسي في أوكرانيا، ميولش زيمان أن بوتين مختل عقلياً.
هذه الشكوك حول الصحة النفسية لبوتين ليست جديدة. هي بدأت منذ عام 2014 والجديد فقط هو المقارنة الواضحة الآن مع هتلر. يقولون أراد هتلر تغيير موازين القوى في أوروبا بعيد اتفاقية فيرساي المهينة لألمانيا. يريد بوتين أيضاً أن يغير موازين القوى الذي حدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومنع نشر قواعد الناتو بالقرب من روسيا. هؤلاء المحللون ينظرون لهذه الحرب على أنها استراتيجية من بوتين في محاولة منه لإعادة خلق ما يشبه الاتحاد السوفييتي وبالتالي يرون أن بوتين لن يتوقف عند أوكرانيا في حال ما لم يتم ردعه.
تسارعت أيضاً وسائل الإعلام الغربية بتصوير أن التقدم البطيء "حسب ما يزعمون" للجيش الروسي في أوكرانيا هو ناتج عن مقاومة شعبية عتيدة في وجه ما يسمونه "المحتل الروسي" وقد رأى بعض المحللين أن في هذا التقدم البطيء إما دليل على ضعف الجيش الروسي أو خطأ في حسابات بوتين عن حجم القوة العسكرية اللازمة لاحتلال أوكرانيا.
ويرى العديد من المحللين أن التدخل الروسي هو مؤشر خطير وصادم حيث يشرح المؤرخ توماس جومارت مدير المؤسسة الفرنسية للعلاقات الدولية أن: "روسيا انتقلت من منطق الحرب المحدودة إلى منطق الحرب الشاملة" فهو يشرح في مقابلته في مع صحيفة لوموند أن هذه المرة الأولى التي تقوم بها روسيا الاتحادية باستخدام هذا الحجم من الوسائل العسكرية، ويتابع جومارت قائلاً أنه منذ عام 2014، كل الحروب التي شنتها روسيا يمكن اعتبارها حروباً (غير مرئية) ويعني المؤرخ بمصطلح الحروب غير المرئية على أنها ما دون مستوى الحرب وعلى أنها غير مباشرة.
ونحن إذ ذكرنا ما سبق وأطلنا المقدمة لأننا نريد أن نناقش كافة المزاعم المذكورة ونعزم على تقديم إجابات مختلفة للأسئلة التالية:
هل الدخول الروسي إلى أوكرانيا هو احتلال ناجم عن رغبات توسعية؟ هل يريد بوتين حقاً أن يعيد أمجاد الاتحاد السوفييتي؟ هل أخطأ بوتين في حساباته العسكرية لتكلفة المعركة في أوكرانيا؟
في بداية الأمر علينا أن ننوه أن العلوم السياسية لا تشبه بأي شكل علوم الطبيعة فمهما كان المحلل السياسي منهجياً ومهما حاول أن يأخذ بعين الاعتبار كل الوقائع والمتغيرات فإنه لا يمكنه أن يؤكد ماذا سيحدث في المستقبل، فنحن لسنا أمام معادلات كيميائية إذا عرفنا فيها العناصر المتفاعلة عرفنا مسبقاً نتيجتها، هو فقط يستطيع أن يُعطي تنبؤات تعتمد على قراءته للوقائع ومن هنا ستكون نقطة خلافنا مع التحليلات السابق ذكرها لأننا لا نرى في الوقائع والمؤشرات الحالية ما يدل على وجود رغبة روسية في احتلال أوكرانيا وضمها إلى روسيا ولا نرى أي دلائل على وجود أي رغبة روسية في إعادة تشكيل ما يشبه الاتحاد السوفييتي، وسنوضح ضعف الحجج المذكورة لتلك القراءات.
إنّ التحليلات التي تفضي أن روسيا ستقوم بالتدخل عسكرياً في أوكرانيا ليست جديدة، فمثلاً المفكر والمؤرخ والفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي قد حذّر منذ سنين عديدة أن توسع الناتو، كما ورفض واشنطن إعطاء روسيا الوعود بعدم قبول أوكرانيا وجورجيا في الناتو، سوف يؤديا في نهاية المطاف إلى إجبار روسيا على استخدام القوة العسكرية لضمان هذا الأمر. وليس تشومسكي وحده من نوّه إلى هذا الخطر. جاك ماتلوك السفير الأمريكي السابق في روسيا والدبلوماسي المتخصص في الشؤون الروسية، وصل أيضاً إلى الاستنتاج نفسه، وليام بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي أيه) وجورج كينان الدبلوماسي الأمريكي والذي يعتبر مهندس الحرب الباردة، وويليام بيري وزير الدفاع الأمريكي السابق، والذي يعمل حالياً أستاذاً فخرياً في جامعة ستانفورد، كلهم أكدوا ذلك. وبعيداً عن كل هؤلاء الدبلوماسيين الأمريكيين فقد وصل إلى الاستنتاج نفسه عدد من الباحثين والمختصين في العلاقات الدولية، وعلى رأسهم جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية وأحد منظري المدرسة الواقعية الجديدة (إحدى النظريات في العلاقات الدولية).
لقد نوّه كل هؤلاء الخبراء والمفكرين إلى خطورة سياسات الناتو التوسعية منذ عشرات السنين وقد صدقت تنبؤاتهم أن هذا التوسع سيؤدي إلى رد فعل عسكري روسي. صدق التنبؤات السياسية لهؤلاء المفكرين إنما يدل على قراءات سياسية واقعية مبنية على المنطق وبعيدة عن التخمينات فإن أحداً من هؤلاء من هؤلاء المفكرين لم يتفاجأ بالحدث الروسي - الأوكراني كما تفاجأ به رواد مزاعم "الرغبات البوتينة التوسعية"، ومعظم هؤلاء لا يملكون حجج تؤكد تنبؤاتهم الجديدة إلا بعض التحليلات النفسية المجتزأة لخطابات بوتين التي لا تعدو كونها مجرد تخمينات لا تمتّ لعلم السياسة بصلة. وهنا يعبّر غيوم سوفيه الباحث في مركز الدراسات والبحوث الدولية في جامعة مونتريال عن أسفه لوجود هكذا تحليلات، ويشرح قائلاً : "بشكلٍ عام من المرجح أن نفهم ظاهرةً ما بشكل أفضل إذا لم نبدأ تحليلنا بأنّ الشخص الذي يقوم بالتصرف مجنون لأنه ببساطة لا يمكننا أن نفهم ما يفعله"، ويشرح تريستان لانردي أستاذ التاريخ أن التفسيرات هذه ليست إلا مؤشر عن قلة فهم ويوضح قائلاً: "لقد اعتدنا على رؤية الأشياء من وجهة نظرنا الغربية بحيث أصبح من الصعب علينا أن نضع أنفسنا في مكان الروس".
في مقابلة حديثة مع المفكر جون ميرشايمر يشرح أنّ جذر المشكلة الروسية الأوكرانية بدأ في شهر نيسان من عام 2008 في قمة الناتو في بوخاريست حيث صرّح الناتو مؤكداً أن أوكرانيا وجورجيا سيكونان أعضاءً في حلف الناتو، وقد صرّح الروس منذ ذلك الحين بشكلٍ واضح جداً أن تصريحات الناتو هذه تهديدات وجودية لروسيا. يشرح ميرشايمر أن المشكلة الحقيقية هنا لم تكن يوماً تحول أوكرانيا إلى ديموقراطية ليبرالية أو حتى انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، لكن المشكلة هي في توسع الناتو وتحول أوكرانيا إلى دولة حليفة لأميركا. يوضح ميرشايمر أن المسألة ليست مرتبطة بإمبريالية روسية تريد أن تفرض رغباتها على أوكرانيا، بل بسياسات قوى عظمى، وأنك عندما تكون مجاوراً لدولة عظمى كروسيا فمن الواقعية السياسية أن تهتم برأي روسيا بما تفعله وأن تكون حذراً بتعاملك معهم. هذا هو مبدأ مونرو الشهير. كمثال، إن أي محاولة لدولة بالقرب من أميركا بأن تستضيف قواعد عسكرية تابعة لقوى عظمى معادية لن تقبه أمريكا وستعتبره اعتداء أمنياً عليها. ميرشايمر يوضح أنه "على ما يبدو سمع المحللون الغربيون القسم الأول من الجملة التي قالها بوتين في خطابه "من لا يشتاق للاتحاد السوفييتي فهو بلا قلب"، ولكنهم تجاهلوا الجزء الثاني الأهم من الجملة وهو قوله "ولكن من يريد إعادة الاتحاد السوفييتي فهو بلا عقل".
إن الوقائع العسكرية والسياسية الحالية خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حالة الاقتصاد الروسي المتعب من العقوبات وحجم الإمدادات العسكرية المبعوثة إلى أوكرانيا وتصريحات بوتين، وحقيقة أنه إذا ما نظرنا إلى الخرائط الحالية سنرى أن التركيز العسكري لروسيا هو على الخط الحدودي الفاصل بين روسيا وأوكرانيا وأنه حتى الآن لا يوجد هجوم حقيقي على مناطق غرب أوكرانيا، كل هذا يشير إلى أنه لا رغبة حقيقية لروسيا باحتلال أوكرانيا وضمّها، وأن هنالك مخرجين واضحين لهذا التدخل:
المخرج الأول: هو انتزاع وعد أوكراني بعدم الانضمام إلى حلف الناتو ومن ثم الخروج وترك اوكرانيا دولة حياد، وعدم التدخل بنظامها السياسي.
المخرج الثاني: هو أن تقوم روسيا بوضع حكومة سياسية موالية لها ومن ثم الخروج عسكرياً من أوكرانيا.
لقد اعتمدنا حتى الآن الحجج السياسية للعديد من كبار الدبلوماسيين والمفكرين في العلاقات الدولية للرد على الادعاءات المنتشرة عند الكثير من المحللين الغربيين وسنقترح حججاً وتفسيرات أُخرى قائمة على تحليل التدخلات الروسية السابقة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ومقارنتها مع بعض التدخلات العسكرية الأمريكية. ونرى هذا ممكناً لأنه، ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي، إلى اليوم فإن التدخلات العسكرية الروسية كانت محدودةً جداً.
التدخل الأول، كان في إقليم كوسوفو عام 1999 لمساندة الرئيس الصربي سلوبودان ميلوزوفيتش، في مواجهة قوات الناتو وجيش تحرير كوسوفو ولكن سرعان ما تراجعت الدبلوماسية الروسية عن هذه النوايا وأعلنت رغبتها في المساهمة بتحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة.
التدخل الثاني، كان في نفس العام في الشيشان، بعد أن بدأت المشاكل عام 1994 وانتهت بانتصار الشيشانيين في عام 1996 وإعلانهم الاستقلال. إلا أن روسيا سيطرت مجدداً على الشيشان عام 1999 وضمتها الى الاتحاد الفدرالي الروسي.
تلى ذلك، تدخل القوات الروسية في شهر آب عام 2008 رداً على هجوم جورجيا على الجمهورية الانفصالية الموالية لروسيا "أوسيتيا الجنوبية"، واستمرت روسيا خلال هذا التدخل بالتأكيد على أن لا نية لديها باجتياح جورجيا، وقد توقفت كامل العمليات العسكرية، فور انسحاب القوات الجورجية من أراضي أوسيتيا الجنوبية.
التدخل التالي كان في آذار 2014، بعد سقوط الحكومة الموالية لروسيا في أوكرانيا، وقد اقتصر التدخل الروسي على منطقة شبه جزيرة القرم، وانتهى بضمها لروسيا بعد استفتاء أهل المنطقة الذين أقروا بإرادتهم أن يكونوا تابعين لموسكو. ثم كان التدخل قبل الأخير في سوريا عام 2015، واقتصر على تقديم دعم جوي للقوات المسلحة السورية دون إرسال قوات برية. وقد كان لروسيا دور كبير في قلب موازيين القوى في سوريا وفي المكاسب العسكرية الكبيرة التي حققتها الدولة السورية.
كل هذه التدخلات العسكرية كانت محدودة وقد استُخدمت فيها القوة العسكرية لتحقيق أهداف سياسية واضحة. وكما رأينا عندما كانت الاهداف السياسية غير قابلة للتحقيق كما حدث في كوسوفو لم تتردد روسيا في إيقاف العمليات العسكرية فوراً، وكما رأينا أيضاً في الأمثلة الأخرى أن روسيا استخدمت قوة عسكرية مكافئة لحجم أهدافها السياسية فمن السهل مثلاً على روسيا أن تقوم باحتلال جورجيا لو أرادت وضمّها إليها، إلا أنّ روسيا اكتفت باستخدام قوة عسكرية كافية للضغط على جورجيا للانسحاب من أوسيتيا الجنوبية دون تصعيد للموقف. ورأينا الامر نفسه في التدخل في أوكرانيا عام 2014 حيث اكتفت روسيا بضم شبه جزيرة القرم لها بعد الاستفتاء الشعبي. ويجب التنويه أن سكان منطقة شبه جزيرة القرم هم من ناطقي اللغة الروسية، وأن هذه المنطقة روسية تاريخياً، وتم تقديمها لأوكرانيا من زعيم الاتحاد السوفييتي، نيكيتا خروتشوف دليلاً على حسن نية الاتحاد السوفييتي تجاه أوكرانيا وعلى أهمية أوكرانيا بالنسبة للاتحاد. أما بالنسبة لسوريا فقد كان الدعم العسكري محدوداً أيضاً، حيث جاء على شكل مساعدة للقوات العسكرية دون السيطرة الكاملة بالرغم من قدرة روسيا اتباع سياسية الأرض المحروقة التي اتبعتها امريكا في الرقة، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.
أسلوب عمل الروس في سوريا، يوحي بهدوء التدخل الروسي وأخذ موسكو بعين الاعتبار القوات التركية والامريكية المتواجدة على الأراضي السورية، فلم يحاول الروس مثلاً قصف القواعد الأمريكية المتواجدة في الشمال السوري (على الرغم أن التواجد الأمريكي غير مبرر فعلياً من وجهة نظر القانون الدولي، على عكس التواجد الروسي). كما تفادت روسيا أيضاً الصدام المباشر مع القرات التركية الموجودة في سوريا مما يفسر التقدم البطيء للقوات الروسية في إدلب وعدم رغبة موسكو تصعيد الصراع مع أي دولة من حلف الناتو. وقد أثبتت روسيا مرة اخرى أنها قادرة على تحقيق أهدافها السياسية باستخدام قوة عسكرية متكافئة مع حجم الأهداف، فمن دون الحاجة إلى تصعيد خطير ضد أمريكا وتركيا في المنطقة، ومن دون استخدام قوات برية، وبالاكتفاء باستخدام الدعم الجوي استطاعت روسيا ضمان بقاء حليفها في السلطة.
من الجدير بالذكر أن سوريا وعلى عكس ما يتوقعه الكثيرون لها اهمية كبرى في نظر روسيا. فكما يشرح ألكسي فاسيليف، المؤرخ والمستعرب الروسي والباحث في شؤون الشرق الأوسط في كتابه "سياسية روسيا في الشرق الأوسط من لينين إلى بوتين"، أنّ روسيا ومنذ أيام الاتحاد السوفييتي تسعى للتواجد في البحر الأبيض المتوسط لأسباب عسكرية بحتة أهمها الدفاع عن نفسها ضد أي اعتداء أمريكي نووي. وبعد تضرر العلاقات مع مصر السادات تركز الاهتمام السوفييتي بداية، ثم الروسي لاحقاً على سوريا كحليف مهم لضمان تواجدها على البحر الأبيض المتوسط.
لم يكن التدخل العسكري الروسي في سوريا مجرد تدخل في دولة بعيدة كطريقة للعودة إلى الساحة الدبلوماسية العالمية فقط، أو لتجربة الأسلحة الجديدة –بالرغم من أن هذين السببين مهمين -، لكن التدخل الروسي جاء خوفاً من خسارة قاعدة عسكرية مهمه للحفاظ على أمن موسكو في البحر الابيض المتوسط، وقد حققت روسيا هدفها السياسي بحذر شديد،
نريد بهذه الامثلة أن ننوه لمشكلة في شكل التدخل الأمريكي العسكري. وهي المشكلة التي يبدو أن روسيا حتى الآن استطاعت تفاديها. جدعون روز، المحلل السياسي النيوليبرالي الأميركي نوّه مرة في كتابه "كيف تنتهي الحروب، لماذا دائما نقاتل المعركة الاخيرة" إلى هذه المشكلة. فبالرغم من اعتقاده بأحقية التدخل الامريكي وبحسن النوايا الأمريكية، وفي أن تحويل الديكتاتوريات إلى ديمقراطيات ليبرالية هو أداة لتحقيق السلام العالمي. إلا أنه يرى مشكلة مستمرة في شكل التدخل الامريكي. يوضح روز أن مشكلة أمريكا تكمن في أنها لا تخطط بشكل كاف لفترة ما بعد الحرب، وأنها تكتفي بالتخطيط للجانب العسكري للحرب دون الجانب السياسي، وهذه إشكالية كبيرة، لأن الحرب هنا تصبح أداة تدمير بدل أن تكون أداة لتحقيق اهداف سياسية. روز يؤكد على ضرورة ألا تنسى أميركا أفكار المؤرخ الحربي كارل فون كلاوزفيتز - أحد اهم كتّاب التكتيك الحربي - الذي دائماً ما أكد أنه يجب علينا أن نفكر بالأهداف السياسية المراد تحقيقها قبيل القيام بحرب، لأن الحرب في نهاية المطاف ليست إلا أداة من أدوات تحقيق الأهداف السياسية.
هكذا اضطرت أميركا وفي كل الحروب التي شاركت بها أن تحافظ على شكل من الوجود العسكري، ففشلت في دول كالعراق وافغانستان في انشاء أنظمة حليفة لها، وتورطت في الحروب لسنين طويلة رغم سرعة تحقيق الاهداف العسكرية. يوضح روز أن الحالة الوحيدة التي تخرج فيها أمريكا من الحرب هي الحالة التي لا تستطيع أن تسيطر فيها على الفوضى. يمكن إذاً تصنيف الحروب الامريكية بالحروب التي لا تنتهي، والتي لا تؤدي إلى أي تغيير حقيقي ولا إلى تحقيق المصالح السياسية المطلوبة لأميركا والفائدة الوحيدة من هذه الحروب هي الدمار الشامل لدول ثرية بالموارد الطبيعية.
قد يكون هذا الشكل من الحرب الذي تعودنا عليه في العقود الأخيرة أحد الاسباب التي تشرح التحليلات غير المنطقية بخصوص ضعف الجيش الروسي، حيث تعوّد الإعلام الغربي على الانجازات العسكرية السريعة دون الاهتمام بما سيحدث بعد ذلك، لكن واقعياً فإن الجيش الروسي هو ثاني قوة عسكرية في العالم ولو أرادت روسيا احتلال أوكرانيا لما كان هذا صعباً. إذ لا يمكن المقارنة بين القوة العسكرية الروسية والقوة العسكرية الاوكرانية، مع تأكيد جو بايدن أن امريكا - وبالتالي حلف الناتو - لن تتدخل بشكل مباشر في الحرب الأوكرانية.
من الواضح إذاً، أن روسيا لا تسعى إلى تحقيق نصر عسكري سريع يكون ثمنه دمار أوكرانيا بل إلى تحقيق أهداف سياسية شديدة الوضوح كان قد صرّح عنها الرئيس الروسي بوتين مرة تلو الأخرى. إننا لا نرى إذا ما ابتعدنا عن أنصاف التحليلات النفسية لشخصية بوتين، أي سبب يدعونا لنظن أن هذه المرة ستكون مختلفة عما سبقها، بل نرى أن جلّ ما يريده بوتين هو ضمان عدم دخول أوكرانيا إلى حلف الناتو وفي اللحظة التي سيتحقق فيها هذا الهدف فإننا نعتقد أن القوات الروسية ستنسحب وستتوقف الحرب.
وأخيراً، لا نحاول في هذا المقال الدفاع عن روسيا واعتبارها جزء من محور الخير مثلاً، ولسنا نحاول أيضاً شيطنة أميركا واعتبارها محوراً للشر. ففي التحليل السياسي لا مكان لهذه النظرات الطفولية. هذه المصطلحات كمحور الشر مثلاً (وهو مصطلح أميركي استخدمه جورج بوش الأب) هو مصطلح بروباغندا وليس مصطلحاً مقبولاً من الناحية العلمية، ففي البروباغندا كل شيء مسموح للأسف. لكن الأسف الأكبر هو أن ينجر المحلل السياسي وراء مشاعره فيقدم بدلاً من التحليل للواقع، خطاباً مبنياً على ما يتمنى وما يريد.
إننا نرى في التهويل الإعلامي والحرب النفسية التي تحاول تصوير روسيا على أنها الشيطان الذي سيجر العالم حرب نووية بسبب غرور الرئيس بوتين وطمعه دون أي حجج منطقية بروباغندا لا أخلاقية تحاول تعطيل عقول الناس عن طريق الخوف والهلع. هم يريدون إقناع الناس أن معتوهاً ما هو من يدير شأن دولة لديها القدرة العسكرية على تدمير الكرة الأرضية. ونحن نؤكد في نهاية مقالنا أن روسيا لا تتدخل لحماية الشعوب من أميركا، وأن خطاب بوتين الذي يركز على محاربة النازية في أوكرانيا -حتى ولو كان فيه شيء من الصحة - هو خطاب بروباغندا. لكن وبنفس الوقت، إن لروسيا مصالح أمنية واقتصادية مثلها مثل جميع الدول وهي تدافع عنها الآن بشكل منطقي، وأنه بهذا الضوء وبهذا الضوء فقط، يجب علينا قراءة التدخل الروسي. لأنه لا دليل حقيقي على انعدام عقلانية القرار الروسي. فنحن هنا لسنا أمام خطاب يميني متطرف ولسنا أمام شوفينية روسية تريد إعادة أمجاد الماضي عن طريق احتلال الدول، بل أمام خطاب عقلاني بمطالب صريحة. إننا وبكل بساطة نشهد قوةً عظمى تدافع عن مصالحها السياسية والعسكرية ضد اعتداء صريح ومستمر منذ ثلاث عقود.
Related Posts
كاتبة سورية، حاصلة على بكالوريوس في علوم سياسية - اختصاص دراسات شرق أوسطية -،.وماجستير علاقات دولية من معهد الدراسات السياسية في باريس